مجلة المحيط الفلاحي

التوسُّع في تجارة الغذاء لا بد أن يسند أهداف الأمن الغذائي وطنياً وعالمياً (تقرير)

المحيط الفلاحي : أورد تقرير جديد صادر عن منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (فاو) أن التنظيمات التي تحكم التجارة الدولية للمنتجات الغذائية والزراعية ينبغي أن تُصاغ على نحو يراعي الأمن الغذائي والأهداف الإنمائية للبلدان، في نهجٍ عملي من شأنه أن يواءم السياسات الزراعية والتجارية على الأصعدة الوطنية.

والمتوقع أن الزيادة المنتظرة في دفق التجارة العالمية للمنتجات الزراعية إلى جانب تغيّر أنماط التجارة وتصاعد المخاطر على الإمدادات العالمية سوف تضفي على التجارة وإدارتها تأثيراً متزايداً بالنسبة لإمكانيات وكيفيات تحقيق الأمن الغذائي على الصعيد العالمي الشامل. ونتيجة لذلك، يشير تقرير “فاو” المعنون “
حالة أسواق السلع الزراعية 2015-2016” (SOCO) إلى أن صنّاع السياسات أصبحوا يواجهون تحدياً يتمثل من ضمان أن يخدم توسع التجارة “أهداف القضاء على الجوع وانعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية، لا أن يتعارض معها”.

ويهدف الإصدار الجديد من تقرير “فاو” الرائد إلى الحد من التفاوت الواسع حالياً في مختلف وجهات النظر بشأن التجارة الزراعية، حيث يصر اتجاهٌ على أن التجارة الحرة تفضي إلى إتاحة مزيد من الغذاء مع إمكانيات الحصول عليها، في حين ينادى آخر مستشداً بالموجة الاخيرة لتقلّب أسعار الغذاء باتباع نهج أكثر حذراً بالنسبة للتجارة بما في ذلك تبني جملة متنوعة من الضمانات في حالة البلدان النامية بالذات.

ويشدّد العنوان الفرعي للتقرير، “تحقيق توازن أفضل بين الأولويات الوطنية والمصلحة الجماعية”، على أن دور التجارة يتفاوت على نحو واسع طبقاً لخصائص كل بلد على حدة، من مختلف عوامل الدخل والبنية الاقتصادية وحيازة الأراضي وطور التنمية الزراعية ودرجة تكامل المزارعين في سلاسل القيمة العالمية. ووسط مثل هذا التنوع في الظروف الوطنية السائدة، ينبغي أن تحرص التنظيمات الدولية لصياغة السياسات التجارية الوطنية على دعم الجهود الرامية إلى التخفيف من الاضطرابات التي قد تؤثر على أي من الأبعاد الأربعة الأساسية للأمن الغذائي، أي التوافر، وقدرة الوصول، وقابلية الاستخدام، والاستقرار.

ويكتسب تحقيق التوازن بين أهداف المدى القصير، والمدى الطويل أهمية حاسمة بالنظر إلى أن التنوع الواسع في طبيعة الاضطرابات الممكنة، بل والمرجَّح أن تصبح صدمات السوق أكثر تواتراً بسبب عدم اليقين على الأصعدة الجغرافية السياسية والمناخية، وتلك الناجمة عن السياسات. وفي حين أن الجهود الرامية إلى التدخل وحماية الأسواق المحلية من تطاير الأسعار العالمية يمكن أن تتمخض في الواقع عن زيادة التقلب في الأسعار المحلية، تلعب الحوافز الزراعية دوراً هاماً في زيادة الانتاج ورفع الكفاءة الزراعية وتعزيز النمو الاقتصادي .

عقدٌ من التغيير الجذري

في غضون العقد الماضي طرأت تغييرات ملحوظة على ساحة التجارة العالمية مع نمو تجارة المواد الغذائية وحدها بما يكاد يبلغ ثلاثة أضعاف قيمتها سابقاً، مدفوعةً على الأكثر بتجارة الفواكه والخضروات والأسماك واللحوم ومنتجات الألبان- وجميعها من فئات ذات معايير جودة أعلى أهمية بالمقارنة مثلاً بتجارة السلع الأساسية كالحبوب.

وعلاوة على ذلك، طرأت تغييرات على الأصعدة الجغرافية الاقتصادية بعد أن أضحت أمريكا اللاتينية أكبر مُصدِّر للغذاء وحلّت محل أمريكا الشمالية، مُبشرةً بخارطة اقتصادية جديدة للتدفقات التجارية فيما بين بلدان الجنوب. وفي تلك الأثناء، تكاثرت اتفاقيات التجارة الإقليمية؛ وبينما غلب على واردات السلع الزراعية طابع التشتُت بين بلدان عديدة، مالت الصادرات إلى أن تتركز في أيدى عدد قليل من المصادر- مثل البرازيل في حالة السكر، أو الولايات المتحدة في حالة الحبوب الخشنة- مما جعل العرض أكثر قابلية للاضطرابات المفاجئة .

في الوقت ذاته، فإن الديناميات المستجدة أخذت تقود أنماطَ التجارة على نحو متزايد، بما في ذلك ظهور سلاسل القيمة العالمية والتكامُل الرأسي لهياكل الإنتاج الزراعي والتسويق. ومثل هذه التطورات، حيث ضاهت قوة السوق وتوحيد المعايير نفس أهمية الأسعار، أثيرت تساؤلات حول فرضية الأسواق التنافسية والجهود التقليدية لتسخير المزايا النسبية، حتى وإن كانت المشاركة في سلاسل القيمة تتيح فرصاً هامة أيضاً لتوليد الدخل في صفوف صغار المزارعين.

كذلك، شاركت “ثورة السوبر ماركت” لدى العديد من البلدان النامية في تغيير توازن الفرص والمخاطر. فمن ناحية، تورِّد سلاسل البيع بالتجزئة في كثير من الأحيان السلع مباشرة مما يصطدم بالعادات السائدة وعلى النحو الذي اتضح نتيجة الانخفاض السريع في حصة السوق، في حالة أكبر ثلاث شركات متعددة الجنسيات لتجارة الموز، من 70 في المائة عام 2002 إلى 37 في المائة اليوم. ومن جهة ثانية، في حين تميل سلاسل السوبر ماركت إلى إفادة المستهلكين بالمناطق الحضرية حيث يغلب انخفاض الدخل، فقد يعاني المنتجون أنفسهم إن افتقروا إلى القدرة على ضخ الاستثمارات المطلوبة تلبيةً لمعايير الحجم والتكلفة والجودة والاتساق التي تفرضها الظروف المستجدة.

تركيز دقيق على الأدلة

ويدحض تقرير “فاو” بالأدلة الدقيقة التصادم الايديولوجي الناشئ في كثير من الأحيان بين دُعاة الأسواق الحمائية والحرة، والتي غالباً ما تنبع من الاختلافات في تعريف التجارة والأمن الغذائي. وفي الواقع، يمكن للبلدان أن تسعى إلى اتباع مختلف الاستراتيجيات في هذا الصدد، بدءاً من منح الأولوية لإنتاجها الخاص… إلى الاعتماد على أسواق أكثر انفتاحاً في مراحل مختلفة من مساراتها الإنمائية، ووفقاً لتبدل ظروفها بمرور الوقت.

ولكن بغضّ النظر عن هذا وذاك، فإن التمييز الرسمي بين الأسواق المحمية والليبرالية غالباً ما يتلاشى طبقاً لطرق التطبيق الفعلي للتنظيمات التجارية. وعلى سبيل المثال، إذ احتفظت البلدان الأقل نمواً لنفسها بحق تطبيق أعلى التعرفات الكمركية على الواردات (أو ما يُعرف بتسمية “معدلات التعرفة المقيّدة”)، وتبعتها البلدان النامية على نفس المنوال… تبنّت البلدان المتقدمة أدنى مستوى للتعرفات، لكن الفارق لم يكد يُلاحظ حقيقةً في الرسوم الكمركية المتقاضاة فعلياً من قبل الفئات الثلاث.

وغالباً ما تتوقف السياسات الملائمة أيضاً على تطور الأسواق الوطنية ذاتها، ومدى تنافسيتها وإتاحتها للمشاركين أدوات فعالة لإدارة المخاطر. وفي تقدير تقرير “فاو”، فحيثما لا تنطبق هذه الشروط “لا ينبغي رفض سياسات الدعم المحلي تلقائياً”.

أما تعميم هدف الأمن الغذائي- كوظيفة في ذاتها ضمن قطاعات متعددة من الاقتصادات المتغيّرة بمرور الوقت- ودمجه كعنصر ثابت في صلب عمليات صُنع قرارات السياسات التجارية، فيبرز كوسيلة لتحويل التجارة إلى “عامل تمكين” للتنمية المستدامة… وجعلها هدفاً مدمجاً بمساعي القضاء على الجوع.

المحيط الفلاحي : الفاو

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.