فلاحون يكشفون حقيقة داء غامض يضرب بذور البطاطس في المغرب
أصوات تدق ناقوس الخطر حول بذور فاسدة تهدد خصوبة التربة وميلاد أول مشروع مغربي لحمايتها كان لافتا أن الفلاحين المتحدثين عن وجود مرض في بذور البطاطس ذكروا، في تصريحات متفرقة لـ«المساء»، الاسم ذاته باللغة الفرنسية،ولم يتردد بعضهم في القول إن «جميع الفلاحين يعلمون يقينا أن كميات كبيرة من بذور البطاطس التي يتم استيرادها تكون «مريضة» وأكدوا أن معظم الفلاحين واعون بذلك»
«بذور البطاطس في المغرب مريضة»، هذه حقيقة يقول فلاحون كثر إنها مسلَّم بها. لكن لا تقلقوا، فهذا المرض لا ولن تكون له أعراض على صحتكم ولا يهدد حياتكم وفق الفلاحين أنفسهم.
غير أن الأمور، كما يقول فلاحون أيضا، ليست على ما يرام، لأن معظم البذور المستورَدة لا تكون ذات جودة عالية، الشيء الذي يزيد احتمالات أن تلحق زراعتُها في بلادنا أضرارا كبيرة بخصوبة التربة. كما أنها تُكبّد المغرب خسائر لا يستهان بها على مستوى كمية الإنتاج الوطني من البطاطس، إذ إن محصلة هكتار مزروع بطاطس ترتبط بشكل وثيق بجودة البذور المعتمَدة من لدن الفلاح، دون إهمال أهمية بقية العوامل من إيلاء اتهام وتعهد بالرعاية ووفرة المياه والحرص على انتظام عمليات الري وفق المعايير العلمية.
وفي المقابل، ثمة فلاحون يستبعدون، بل منهم من ينفون قطعا، أن تكون البذور المعتمَدة في زراعة البطاطس في المغرب مصابة بأمراض. ويستعرضون معطيات تدعم رجاحة طرحهم، أبرزها على الإطلاق التزام السلطات المغربية صرامة كبيرة في التعامل مع البذور المستورَدة.
وفي هذا السياق، أكد محمد السعيدي، مدير الجمعية المغربية للبذور والشتائل، أن المغرب يبدي صرامة كبيرة في تعامله مع بذور البطاطس المستورَدة واستحضر، في تصريحات لـ»المساء»، مواقفَ عبّرت فيها الدول الأكثر إنتاجا لهذا النوع من البذور في العالم، وفي مقدمتها هولندا، عن «استغرابها، وأحيانا عدم رضاها، عن الطريقة التي تستقبل بها بذورها المعتمَدة في الموانئ المغربية».
ففي السنة الماضية وحدَها، عرف ميناء الدار البيضاء وحده إرجاع نحو 5 آلاف طن من بذور البطاطس، تم شحنُ معظمها نحو المغرب من موانئ أوربية، إلى دولها الأصلية، وفق إفادة السعيدي، الذي قال إن الكميات التي لم تحصل على «تأشيرة» ولوج الأراضي المغربية من المختبرات المحلية المتخصصة تم تصديرها في وقت لاحق إلى دول إفريقية لا تمانع في الحصول على بذور معتمَدة متدنية الجودة.
وإذا كان السعيدي قد نفى أن تكون بذور البطاطس في المغرب «مريضة»، فإنه أكد أن كميات من هذا النوع من البذور التي يرفض المغرب دخولها إلى أراضيه ويرجعها إلى مُورديها غالبا ما تكون مصابة بمرض يسمى «لاكَال كومون»، فإنه كان لافتا أن الفلاحين المتحدثين عن وجود مرض في بذور البطاطس ذكروا، في تصريحات متفرقة لـ«المساء»، الاسم ذاته باللغة الفرنسية ولم يتردد بعضهم في القول إن «جميع الفلاحين يعلمون يقينا أن كميات كبيرة من بذور البطاطس التي يتم استيرادها تكون «مريضة» وأكدوا أن معظم الفلاحين واعون بذلك».
بعد التشخيص
بصرف النظر عن اختلاف وجهات النظر عن مرض بذور البطاطس التي يتم استيرادها من عدمه، فإن التساؤل عن السبل الكفيلة بوضع حد لهذا المرض في حالة وجوده فعلا والاحتياطات الواجب اتخاذها إذا كان هناك خطر يهدد بولوج الأراضي المغربية في حال أفلت من رقابة المختبرات المحلية، يكتسي أهمية كبيرة.
ويدعوا الفلاحون الذين قلّلوا من أهمية مرض هذه البذور، وإن أقرّوا بوجوده في بقاع أخرى من العالم، إلى تشديد المراقبة على الكميات المستورَدة من هذا المنتوج ويثنون على «الصرامة المغربية في هذا المجال».
وفي المقابل، يدعو «المتخوفون» من هذا المرض إلى التفكير في ابتكار حلول تجعل المغرب في غنى عن اللجوء إلى الاستيراد لتلبية حاجياته من بذور البطاطس المعتمَدة، وهذا ما يتطلب دعم الإنتاج المحلي من المادة. وثمة أيضا عامل آخر لا يقل تأثيرا من البذور المستوردة على الإنتاج الوطني من البطاطس، يتعلق الأمر بلجوء المغرب إلى تقنية تكثير هذه البذور بدل استيراد كامل الطلب الوطني من بذور البطاطس.
تعرف الأسواق العالمية لبذور البطاطس عرض أصناف عديدة من هذه المنتوجات تختلف حسب الجودة والمصدر. وتنقسم على مستوى الجودة، على أقل تقدير، إلى أربعة أصناف: النخبة الممتازة والنخبة وكذا الفئتين «أ» و»ب». وتختلف، أيضا، على مستوى المصدر، ويكون هذا العامل حاسما في تحديد جودتها وكذلك سعر بيعها، وإن كانت هولندا رائدة عالميا في هذا المجال بمنافسة لاتينية ممثلة في بوليفيا. وتحتكر كلتا الدولتين، حسب آخر الإحصائيات، 80 إلى 90 في المائة من سوق هذه البذور على الصعيد العالمي.
تقوم عملية التكثير، التي تنتشر بقوة في المغرب، على استيراد بذور من صنف «النخبة الممتازة»، ومن ثمة العمل، وفق تقنية خاصة، على تكثير الطن الواحد من البذور المستورَدة ليصير عشرة أطنان، من أجل تغطية أكبر مساحة ممكنة من الفضاءات المخصَّصة لهذه الزراعة.
غير أن هذه العملية لا تخلو من مخاطر أو خسائر على الأقل، تتجاوز تأثيراتها السلبية على التربة، خاصة الأمراض التي سبقت الإشارة إليها، لتشمل تخفيض سقف الإنتاج الوطني في الهكتار الواحد، بسبب ضعف جودة البذور المستعمَلة. وهي نتيجة تكون لها تداعيات لا يستهان بها على القدرة الشرائية للمواطنين عندما ترتفع أسعار البطاطس، لتصبح في بعض الأحيان بثمن التفاح، في حالة تسجيل تراجع في المخزون المحلي من هذا النوع من الخضر، الذي يستهلك المغاربة منه أزيد من مليون ونصف المليون طن كل سنة.
بيد أن كثيرا من الفاعلين في هذا المجال لا يُبْدُون حماسا إزاء فرص المغرب في تحقيق استقلاله الذاتي من بذور البطاطس. يسردون أسبابا عديدة يرتبط أبرزها على الإطلاق بإكراهات خارجية يجزمون بصعوبة تجاوزها.
إكراهات
تتمثل أولى الإكراهات في سيطرة دول لا تتجاوز عددَ أصابع اليد الواحدة على سوق بذور البطاطس المعتمَدة على الصعيد العالمي. وينحصر الصراع بين أوربا، ممثلة في هولندا وأسكتلندا، وأمريكا اللاتينية، ممثلة في بوليفيا، مع العلم أن المغرب أكثر ارتهانا في هذا المجال إلى القارة العجوز، حيث يستورد منها زهاء ثلثي حاجته من هذا النوع من البذور.
وإذا كانت الجمعية المغربية للبذور والشتائل، ممثلة في مديرها محمد السعيدي، تؤكد عدم وجود أي إكراهات تمنع المغرب من تدشين مشاريع تُلبّي حاجياته من هذه البذور، فإنها شددت في المقابل على الدور الأكثر سلبية للفرق الاقتصادي والمالي بين البذور المغربية ونظيرتها الأجنبية في حالة الإقدام على مشاريع من هذا القبيل.
فقد بيّنت التجارب، حسب المصدر نفسه، أن تكلفة إنتاج كيلوغرام واحد من البذور المعتمَدة في المغرب تزيد عن تكلفة الكمية ذاتها في هولندا، على سبيل المثال، بنحو درهم واحد، وهو مبلغ على قلته، يمكن أن يؤثر سلبا على تنافسية البذور المغربية ويمُسّ بهامش الربح المتاح لمنتجيها في حالة كانت الكميات المعروضة للبيع كبيرة.
وفي تفاصيل فارق الدرهم أنه غالبا ما تكون البذور جاهزة للبيع بحلول شهر يونيو من كل سنة، حينها يكون لزاما على المنتج المغربي تخزينها بالتبريد لمدة قد تصل إلى ثلاثة أشهر. بينما لا تكون البذور نفسُها جاهزة في «الأراضي المنخفضة» إلا في النصف الثاني من شهر أكتوبر، وهو ما يجعل المنتجين هناك غير مجبرين على صرف نفقات إضافية للتبريد، بفضل تدني درجات الحرارة في هذا البلد الأوربي.
وإذا كانت البطاطس تتميز بقابليتها للزرع في فترات مختلفة من السنة، فإن نتيجة المنافسة، حسب مدير الجمعية المغربية للبذور والشتائل، تكون محسومة مسبقا لفائدة البذور المستورَدة حين يتعلق الأمر بالفلاحة الموسمية، في حين تبقى للبذور المغربية مجالات للمناورة في ما يخص أوقات الزراعات الصيفية والبواكر، لأن البذور الأجنبية لا تكون حينها معروضة بكميات كبيرة في الأسواق العالمية.
ولم يقلل فلاحون استقت «المساء» آراءهم حول الأسباب التي قد تمنع المغرب من تطوير الإنتاج المحلي من بذور البطاطس من شأن سيادة ثقافة تفضيل المنتوج الأجنبي على المغربي، حتى وإن ثبت، علميا وتقنيا، أن المنتوج المحلي أفضل من المستورَد، علما أنه يُشترَط في هذه الحالة أن تتم المقارنة بين بذور من الصنف نفسه وليس بين بذور من الصنف الممتاز وأخرى من الصنف «أ» أو «ب»، لأن النتيجة ستكون محسومة مسبقا للصنف الأفضل تصنيفا.
وذكر مدير الجمعية المغربية للبذور والشتائل سببا آخر مثيرا للاستغراب، يتمثل في سلوك غريب يصدُر عن الدول المحتكرة لهذه السوق على الصعيد العالمي حين تسجل عزم دولة سائرة في طريق النمو على تحقيق اكتفائها الذاتي من بذور البطاطس، إذ تعمد إلى بذل قصارى جهودها وتسخير ما توفر لها من وسائل للحيلولة دون نجاح مساعي الدولة النامية حتى تضمن بقاءها زبونا وفيا لبذورها. وذكر متتبع لشأن البذور في المغرب، التمس عدم ذكر اسمه، أن الدول القوية تحرص على الاحتفاظ على نصيبها من سوق بذور البطاطس، ولذلك تلجأ إلى تقنيات «تسويقية» لوأد أي محاولات لإنتاج هذا المنتوج محليا في الدول المصنَّفة ضمن قائمة زبنائها.
وتتجلى هذه التقنيات في «إغراق» الدول النامية المسجلة فيها مبادرات للتخلص من التبعية لتلك الدولة القوية من حيث بذور البطاطس بكميات كبيرة من البذور بأسعار تقل بكثير في بعض الأحيان عن البذور المنتجة محليا من أجل تشجيع المستهلك المحلي على الإقبال على البذور المستورَدة.
التحدي المغربي
رغم «الحظر الأجنبي»، تنتج في المغرب بذور بطاطس محلية التطوير. لكنها لا ترقى إلى جودة بذور البطاطس المعتمَدة المعترَف بها على الصعيد الدولي. كما أن عملية التطوير، التي سبقت الإشارة إليها، لا تُمكّن من الحصول على بذور معتمَدة، وإنما على بذور «عادية» فقدت جزءا غيرَ يسير من قدرتها الإنتاجية، وهو ما يفسر ضعف الإنتاج الوطني في الهكتار الواحد، إضافة إلى تباين الإنتاج نفسه من فلاح إلى آخر، دون التقليل من شأن عوامل أخرى، تقنية كانت أو مالية أو علمية ذات علاقة بالتأطير.
قبل سنوات قليلة، سجل الإنتاج المغربي من بذور البطاطس قفزة كبيرة، حيث تضاعف ثلاث مرات، منتقلا من 2000 طن فقط إلى 6000 طن، وهو رقم ضعيف مقارنة مع حاجيات المغرب من هذه البذور، المقدرة بـ150 ألف طن كل سنة، ضمنها 45 ألف طن مستورَدة في الوقت الراهن.
يتذكر السعيدي، في حوار مقتضب مع «المساء»، كيف عانى المنتجون المغاربة في تلك الآونة صعوبات كبيرة في تسويق منتوجاتهم من هذه البذور بسبب حدة المنافسة الأجنبية. وتساءل مدير الجمعية المغربية للبذور والشتائل عن احتمالات وفرص عودة الفلاحين أنفسهم إلى الاستثمار بقوة في مجال بذور البطاطس بعد المعاناة التي قاسَوْها في تلك السنة، التي «تجرّأ» فيها الإنتاج المغربي، على ضعفه، على التزايد بشكل مفاجئ وخرق حاجز 6000 طن.
حين كان أولئك الفلاحون المغاربة يبحثون عن سبيل لتسويق بذورهم «غير المعتمَدة» بالمعايير الدولية، كانت فكرةُ مشروع حديث عهد في المغرب تراود عبد الحق بنحمادي. فقد فطن هذا المكناسي إلى العجز الكبير الحاصل في تغطية الإنتاج الوطني من بذور البطاطس للحاجيات المحلية من هذا المنتوج. وزادته دراسة أولية لآفاق مشروع من هذا القبيل إصرارا على البحث عن السبل الكفيلة لتنفيذه، فالمشروع سيكون الأولَ من نوعه في المغرب وجميع الأرقام والإحصائيات المتوفرة تتنبأ له بنجاح باهر.
اختار بنحمادي نمط «التجميع» لإنجاز هذا المشروع، الذي أيقن أنه سيكون حاسما في حفظ التربة المغربية من «البذور المريضة» وفي رفع مدخول مزارعي البطاطس المغاربة في الهكتار الواحد بأضعاف كثيرة في بعض الأحيان، وهو ما يعني تحسين مستوى عيشهم وتشجيعهم على مزاولة أنشطة فلاحية أكثر إنتاجية.
الخطوات الأولى
يقر القانون المغربي الإعداد لنشاط التجميع على ثلاث مراحل، تكون أولاها تحضيرية، تشمل دراسة المشروع والإحاطة بكل معطياته، ثم مرحلة تعاقدية تبرم فيها اتفاقية بين المجمِّع والسلطات العمومية، ممثلة في وزارة الفلاحة والصيد البحري على شكل اتفاقية أهداف تحدد التزامات كل طرف وكذلك حقوق وواجبات بقية الأطراف المعنية بالمشروع، لاسيما المجمَّعين. وكذلك كانت الخطوات الأولى لعبد الحق بنحمادي على درب إخراج أول مشروع من نوعه في المغرب لإنتاج البذور المعتمَدة للبطاطس. كانت البحث عن الأرض المناسبة والمال الكافي لتنفيذ هذا النشاط الفلاحي «الخاص جدا»، الأكثر مشقة. استغرقت عملية البحث عن الأرض زهاء سنتين كاملتين، «وهو ما فوّت عليّ موسمين فلاحيّيْن»، يقول بنحمادي، الذي تدبّر كذلك ميزانية المشروع، وقال في تصريح لـ«المساء» إنه وجد صعوبات كبيرة في الحصول على التمويل من الأبناك، قبل أن يقرر عدم الاستنجاد بالمؤسسات البنكية، بعد تسجيله ممارسات غير مهنية في طريقة التعامل مع حاملي المشاريع.
تقرر أخيرا أن يتم تنفيذ المشروع في إقليم الخميسات، وتحديدا بين واديي «بهت» و« وشْكط»، على بعد 15 كيلومترا شرق مدينة الخميسات. أما ميزانية المشروع فتم تقديرها، في البداية، بنحو 240 مليون درهم، لكنْ سرعان ما قفزت إلى 300 مليون درهم.
بعد الانتهاء من المرحلة التحضيرية، بات المشروع أقربَ إلى الإنجاز أكثر من أي وقت مضى. أودع بنحمادي، بعد تيهٍ في متاهة المساطر الإدارية المعقدة، التي سرعان ما تتحول إلى عراقيل، ملف طلب الترخيص لدى المديرية الإقليمية للفلاحة في الخميسات. لم تكن الردود على المراسلات ومدى قبول الملفات المودَعة تتم دائما وفق الآجال المنصوص عليها في القانون. غير أن المثول أمام لجنة منح التراخيص والحصول على صفة مجمِّع كان بالنسبة إلى عبد الحق بنحمادي الأكثرَ أهمية من أجل الشروع في تنفيذ المشروع «الحلم».
حان الموعد المنتظَر. وقف بنحمادي أمام لجنة خاصة أعطت الضوء، بعد مداولة بين أعضائها، لمنح صفة «مرخص» لبنحمادي. وفي يوم السبت، 22 ماي 2010، تم التوقيع على اتفاقية بين أحمد حجامي، المدير العام للوكالة الفلاحية، واحميدة الهرهوري، المدير الجهوي للفلاحة في جهة الرباط -سلا -زمور -زعير، وعبد الحق بنحمادي، اعتبرت شهادة ميلاد رسمي
للمشروع. بعد خمسة أشهر، نظّم عبد الحق بنحمادي، بصفته مجمعا، في 27 أكتوبر من السنة الماضية، في منطقة «ضاية الرومي»، التي تبعد عن مدينة الخميسات بنحو 15 كيلومترا، يوما دراسيا حضره عامل إقليم الخميسات ومسؤولون فلاحيون جهويون وإقليميون، خُصِّص حيزه الأكبر للتعريف بنشاط التجميع.
كان ذلك الحدث مناسبة لتعريف الفلاحين بأهمية التجميع في تنمية محاصيلهم الزراعية والرفع من مداخيلهم. وكان بالنسبة إلى أول مجمع لإنتاج بذور البطاطس المعتمَدة في المغرب فرصة لتسليط الضوء على مشروعه الفريد من نوعه في المملكة وضرب موعد في السنة الموالية، أي السنة الجارية، مع أولى الغِلال.
ليست صرخة في واد
في منطقة «أيت سبيرن»، وتحديدا بين واديي «بهت» و»وشكط»، تبرز تدريجيا معالم مشروع نموذجي. لا يكاد المار من المنطقة يلحظ أهمية المشروع، الذي يرى النور بين ضفتي النهرين.
تمتد المزرعة، التي يعول عليها لتلبية 50 في المائة من الحاجيات الوطنية من بذور البطاطس المعتمَدة، على مساحة شاسعة تصل إلى 86 هكتارا، «قابلة للتوسع» على حد قول بنحمادي.
يتضمن ما يشبه «مركز» المزرعة مرافق تجعل منه بناية حضرية «زُرعت» في فضاء قروي. يتضمن هذا الجزء من المزرعة، وفيه يُنتظَر أن توضع اللمسات الأخيرة على عمليات المزرعة، مرافق حيوية عديدة، تم تشييدُها وفق المعايير الأوربية الجاري بها العمل في هذا الإطار. ويتعلق الأمر بمخازن وورشة لإصلاح المُعدّات الميكانيكية والآلات المملوكة للمزرعة، كما أنها تحتضن أماكن خاصة لإقامة بعض المستخدَمين، تم تزويدها بكافة لوازم الحياة الكريمة، وينتظر كذلك، أن يفتتح قريبا مسجد بعين المكان توجد به مرافق خاصة بالرجال وأخرى للنساء. وأرجع بنحمادي تشييد هذا المسجد إلى «الحرص على توفير جميع المرافق، وضمنها المسجد، لجميع المستخدَمين، وسيكون المسجد ضروريا في أوقات الذروة، التي يُرجَّح أن تفوق فيها أعداد المستخدمين 400 شخص، رجالا ونساء.
في الجانب الأيسر لهذا المركز، ينتظر أن يتم تشييد مختبر لزراعة الأنسجة، الذي سيتولى ضمان تزويد المزرعة بقاعدة بذور خالية من الأمراض. وسيتم تجهيز هذا المختبر بجميع المعدات الأساسية الخاصة بتقنية الإنبات بالأنابيب، من أجل الحصول على «درنات»، أي البذرة حين تتفتح، يتم تحويلُها، وفق عمليات دقيقة، إلى بذور.
وفي الجانب الأيمن للمركز، اكتملت أشغال بناء محطتيْن لمراقبة عمليتي السقي والتخصيب المدمج، شُيِّدت كل واحدة منهما بمحاذاة حوض مائي كبير بسعة إجمالية تصل إلى 120 ألف متر مكعب لكل واحد منهما، وستتوليان ضمانَ ري حقول التكثير، التي تقدر مساحتها الإجمالية بنحو 72 هكتارا، باستعمال تقنية الري بالتنقيط، في حين يأمل عبد الحق بنحمادي أن يتمكن، في أقرب وقت، من تشييد بيوت مغطاة يقضي مشروعه بأن ينتج فيها حوالي 160 طنا من بذور البطاطس، مع الإشارة إلى أنها ستكون ممتدّة، بعد اكتمال أشغال تشييدها، على مساحة تصل إلى هكتارين. وستحظى هذه المزرعة، كذلك، بأكبر وحدة تخزين بالتبريد من نوعها على الصعيد الوطني، يؤكد صاحب المشروع أن طاقتها الاستيعابية لن تقل عن 10 آلاف طن.
وستلعب هذه الوحدة دورا محوريا في تسويق منتوجات المزرعة، إذ سيتم استغلالها لتخزين الفائض المحتمَل من الإنتاج من أجل ضمان تزويد السوق ببذور البطاطس المعتمَدة الخالية من الأمراض بشكل منتظم، وبذلك تُمكّن من المحافظة على الجودة وتقلل من الخسائر ويُمكِن أن تسهم، بفعالية، في تنمية الصادرات المغربية من هذا المنتوج في وقتلاحق.
الاستثمارات المخصصة لهذا المشروع كبيرة، مالا ووقتا. ويجزم بنحمادي أن مشروعه سيغير، حين يأخذ حلته النهائية ويشتغل بكامل طاقته الإنتاجية، منطقة «أيت سبيرن» كلها. منطقة ستنتقل من أراضٍ فلاحية تُزاوَل فيها أنشطة زراعية «مألوفة» لدى الفلاح المغربي، إلى أكبر فضاء من نوعه في المغرب لإنتاج بذور البطاطس المعتمَدة، الخالية من الأمراض، وتصبح علامتها التجارية سفيرة لجودة الفلاحة المغربية في هذا الميدان المتخصص.
كانت البداية «واعدة» على مستوى الإشعاع الدولي لهذه المزرعة النموذجية. ففي يوم الجمعة، 29 أبريل الماضي، أي بعد نحو 7 أشهر عن اليوم الدراسي المنظَّم في «ضاية الرومي»، والذي اعتُبِر أول نافذة إشعاعية لهذا المشروع محليا ووطنيا، استقبلت المزرعة وفدا إيطاليا مكونا من رجال مال وأعمال وعدد من الإعلاميين. وقد قدِم الوفد الإيطالي إلى إقليم الخميسات، وتحديدا إلى «أيت سبيرن»، بناء على طلب زيارة من الجمعية المغربية لدعم الصداقة الدولية.
طاف الإيطاليون على مختلف مرافق ومكونات المزرعة وتتبّعوا، باندهاش، التفاصيل التي قُدِّمت لهم وأبْدوا حماسا كبيرا لهذا المشروع، الذي اعتبروه خطوة مثالية نحو رفع الإنتاج الوطني من بذور البطاطس المعتمَدة. أكثر من ذلك، أثار رئيس الوفد، في قلب المزرعة، موضوع الفرص التي تُتيحها الشراكة المُبرَمة بين رجال الأعمال الإيطاليين والمغاربة لتكريس التعاون في هذا النشاط الفلاحي المتخصص.
الهدف يقترب
لا تتوقف امتدادات المزرعة عند منطقة «أيت سبيرن» ولم يتمَّ تحديد مجال عملها في إقليم الخميسات فقط، وإنما يمكن لبنحمادي، بصفته مُجمِّعا، أن يعتمد فلاحين مجمّعين، شريطة أن تتوفر فيهم الشروط المحددة في اتفاقية 22 ماي 2010. وكان متوقَّعاً أن تكون سنة 2011 أولى سنوات إنتاج بذور بطاطس معتمَدة خالية من الأمراض في إقليم الخميسات، غير أن ثمة عراقيل حالت دون تحقيق هذا الهدف، ترتبط أغلبها بتعقيدات في المساطر الإدارية.
ورغم حداثة عهد هذا النوع من المشاريع في المنطقة، بل وفي المغرب كله، فإن عددا كبيرا من الفلاحين أبْدَوا رغبتهم الشديدة في الانضمام إلى سلسلة هذه الشعبة الإنتاجية من بوابة «المجمَّعين». ففي الوقت الذي تنُصّ اتفاقية الترخيص بالتجميع على ضرورة ألا يقل عدد المُجمّعين في السنة الأولى من الشروع في الإنتاج عن 40 فلاحا، فإن عدد الذين أبْدَوا حماسا ليكونوا طرفا في هذا المشروع في أولى سنواته وصل إلى 253 شخصا، استنادا إلى معطيات عبد الحق بنحمادي.
غير أن المشروع سينطلق بنحو 54 مُجمّعا، أي أكثر من العدد المنصوص عليه في الاتفاقية، سيزاولون نشاط زراعة البطاطس على مساحة إجمالية تصل إلى 300 هكتار، على أن ينتقل عدد المجمعين إلى 160 فلاحا على مساحة إجمالية تناهز 1000 هكتار بحلول سنة 2015، وسينتقل محصول المجمَّعين في الهكتار الواحد من 25 طنا إلى 40 طنا.
يسمح التجميع للمجمِّع بتعبئة وعاء عقاري أكبر لنشاطه وتطوير شعبته الإنتاجية. وفي المقابل، يستفيد هؤلاء من بذور معتمَدة تتوفر فيها المعايير الأوربية المعتمَدة في هذا المجال، مع الاستفادة من آليات فلاحية وتقنية ترفع محصولهم في الهكتار الواحد مقارنة مع باقي الفلاحين الذين يعتمدون في زراعتهم على بذور غير معتمَدة. أكثر من ذلك، يوفر المجمَّع للمجمِّع، وفق اتفاقية التجميع، امتيازات أخرى، من قبيل التأمين الصحي والتأمين الفلاحي والانخراط في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. ولذلك، يأتي تأطير وإرشاد نحو 160 فلاحا ينشطون في زراعة البطاطس في صدارة الأهداف المرسومة لهذا المشروع، إضافة إلى دعم البحث العلمي وضمان التموين المستمر للأسواق المغربية بالبذور المعتمَدة الخالية من الأمراض عن طريق التخزين بالتبريد، في أفق خلق شعبة لتصدير هذا المنتوج نحو الخارج، بعد تطوير شعبة البطاطس في المغرب وتدعيم قوتها التنافسية. وستكون البداية بفرض وجود المنتوج المغربي من بذور البطاطس المعتمَدة في السوق المحلية من أجل تحقيق الهدف الأسمى لهذا المشروع، المنسجِم مع تطلعات مخطط «المغرب الأخضر»، والمتمثل في الانتقال من إنتاج ضعيف لا يتجاوز 2 في المائة من الحاجيات الوطنية إلى نحو 50 في المائة منها. وسيتيح تحقيق هذه الغاية، كذلك، حماية وحفظ التربة المغربية من الأمراض التي يمكن أن تكون دفينة في البذور المستوردة واستعمال بذور محلية ذات جودة عالمية تغني عن الاستيراد، مع رفع حجم الإنتاج الوطني من هذا النوع من الخضر إلى معدل يصير بموجبه متوفرا في مختلف الأسواق المغربية بأسعار تتلاءم مع القدرة الشرائية للمستهلك المحلي.
مخطط «المغرب الأخضر« يفرز أول مشروع تجميعي يهتم ببذور البطاطس المعتمدة
حمل مخطط «المغرب الأخضر» تحفيزات جديدة لتشجيع الأنشطة التجميعية في القطاع الفلاحي. وكانت النتيجة بروز أول مشروع تجميعي خاص ببذور البطاطس المعتمَدة في المغرب، وتحديدا في منطقة «أيت سبيرن»، التي تبعد عن مدينة الخميسات بنحو 15 كيلمومترا وعن مكناس بقرابة 45 كيلومترا.
وينص مرسوم 30 دجنبر 2009، الخاص بالتجميع، على شرطين أساسيين لقبول مشاريع التجميع، يتمثل أولهما في السعي إلى تحسين وضعية سلسلة إنتاجية معينة أو جميع مراحلها من الإنتاج إلى التسويق، مرورا بالتخزين. أما الشرط الثاني فيتجسد في ضرورة تجميع عدد مُعيَّن من الفلاحين من أجل تحقيق الأهداف المنصوص عليها في اتفاقية التجميع، المُبرَمة مع السلطات المعينة بالقطاع.
ويُلزم القانون الدولة، بصفتها طرفا في اتفاقيات التجميع، بدعم الأنشطة التجميعية على ستة مستويات أساسية، هي مواكبة إحداث المشاريع الأولية للتجميع، إرساء نظام تحفيزي خاص بمزارع التجميع وولوج تفضيلي إلى عقار معين معبأ من طرف الدولة، تسهيل الولوج إلى التأمين، مع إقرار نمط تأمين مناسب لنشاط التجميع وبلورة إطار قانوني مشجع على تطوير الأنشطة التجميعية. غير أن كثيرا من الفلاحين لا يُبْدون حماسا للجوء إلى الأبناك لاقتراض الأموال الكافية لتنفيذ مشاريعهم التجميعية، ويرجعون السبب إلى تعقُّد المساطر الإدارية وشيوع ممارسات لا تُحفّز على الإقبال على هذا النمط التمويلي، رغم أن كثيرين يعتقدون، خطأً، أن الاقتراض من الأبناك شرط لتنفيذ مشاريع التجميع.
ويُمكّن اللجوء إلى التجميع المجمِّعَ، وهو مستثمر في جلباب فلاح، من ولوج قاعدة إنتاجية دونما حاجة إلى تخصيص موارد مالية، قد تكون ضخمة، من أجل اقتناء الأراضي الفلاحية. كما يتيح له، أيضا، ترشيدَ رأس المال، مع ضمان تموين منتظم لوحدته الإنتاجية، بالمنطق الصناعي، بالمواد الأولية ذات الجودة. وقد يتمكن المجمِّع، في مرحلة متقدمة، من تطوير قدراته التجارية وتقوية تنافسية منتوجاته لتكريس حضوره في الأسواق المحلية والخارجية.
ومن جهته، يستفيد الفلاح المجمِّع من تثمين أفضلَ للمنتوجات، بفضل الرفع من كمية الإنتاج وجودته في آن واحد، إضافة إلى الاستفادة من تقنيات وآليات حديثة، مع إمكانية الولوج إلى وسائل تمويلية جديدة.
ويعرف المرسومُ ذاته التجميع بكونه شكلا تنظيميا مبنيا على تجميع فلاحين من أجل إنجاز مشاريع، بغية إنتاج منتوج فلاحي أو تتبعه أو تسويقه، في حين يقدم المجمِّع بوصفه كل شخص مادي أو معنوي أو تنظيم مهني يقوم بإنجاز مشاريع للتجميع في سلسلة إنتاجية معينة، بينما يعتبر مجمِّعا كل فلاح يتم إشراكه من لدن المجمَّع في مشروعه التجميعي.
المصدر: المساء