“المحيط الفلاحي” تجري حواراً صحفياً مع الدكتور رشيد مصدق: خريطة خصوبة التربة وتقنيات الزراعة الصحراوية… حلول مبتكرة لمواجهة تحديات المناخ في الواحات المغربية
في ظل التحديات البيئية والمناخية المتزايدة التي تواجه قطاع الزراعة، تبرز أهمية تبني أساليب زراعية مبتكرة ومتجددة، خصوصاً في المناطق الصحراوية التي تعاني من ندرة المياه وتدهور التربة. ومن هنا، يسعى المعهد الوطني للبحث الزراعي والمركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة (إيكاردا) إلى توفير حلول عملية وفعالة للتغلب على هذه الصعوبات.
في هذا الحوار الصحفي ، نلتقي مع الدكتور رشيد مصدق، الخبير الزراعي الدولي والباحث البارز بالمعهد الوطني للبحث الزراعي وإيكاردا ورئيس شراكة التربة العالمية لمنطقة الشرق الأدنى وشمال أفريقيا التابعة لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، والذي يتمتع بخبرة علمية عميقة وإسهامات واسعة في تطبيق التقنيات الحديثة لتطوير الزراعة وأحد ابرز خبراء الحفاظ على صحة التربة. سيطلعنا الدكتور مصدق على تفاصيل مشروع “خريطة خصوبة التربة” وأهم النتائج التي توصلت إليه أبحاثهم والتي تم التطرق لها على هامش اليوم الدراسي الذي عُقد في 31 أكتوبر بمناسبة المعرض الدولي للتمور بأرفود تحت شعار “الواحات المغربية: من أجل أنظمة قادرة على مواجهة تغير المناخ”. وقد سعى هذا اليوم العلمي إلى تسليط الضوء على دور البحث العلمي في تعزيز استدامة هذه النظم البيئية الفريدة. كما استعرض الدكتور مصدق رؤيته حول كيفية إدارة الموارد الطبيعية بشكل رشيد لتعزيز الأمن الغذائي ودعم استدامة الزراعة بالمغرب ، مع التركيز على تقنيات الري المبتكرة التي يمكن أن تحدث نقلة نوعية في هذا القطاع.
مرحباً بك دكتور مصدق. نود أن نبدأ حوارنا بالحديث عن الاستدامة المتكاملة في الزراعة، تحديداً في المناطق الصحراوية الجافة. كيف ترى هذا التوجه نحو الاستدامة، وما هي الآليات الضرورية لتحقيقه..؟
شكراً لكم على الاستضافة. أرى أن تحقيق الاستدامة في الزراعة الصحراوية يتطلب تكاملاً بين التقنيات الزراعية التقليدية والأساليب الحديثة. التراث الزراعي في هذه المناطق يمتلك معارف متراكمة تتعامل بحكمة مع ظروف الجفاف وندرة المياه، بينما تقدم الابتكارات العلمية وسائل لتحسين الإنتاجية وتطوير الحلول البيئية. لذلك، أؤمن بأن المزج بين هذين المصدرين للمعرفة يعزز استدامة الزراعة الصحراوية ويحقق نتائج إيجابية على المدى الطويل.
في ظل التحديات البيئية والمناخية المتزايدة التي تواجه قطاع الزراعة، تبرز أهمية تبني أساليب زراعية مبتكرة ومتجددة، خصوصاً في المناطق الصحراوية التي تعاني من ندرة المياه وتدهور التربة. ومن هنا، يسعى المعهد الوطني للبحث الزراعي والمركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة (إيكاردا) إلى توفير حلول عملية وفعالة للتغلب على هذه الصعوبات.
بالحديث عن أساليب التكنولوجيا الحديثة، قمتم بتطوير “خريطة خصوبة التربة”. هل لك أن تشرح لنا أهمية هذا المشروع، وكيف يمكن أن يساهم في تحقيق الاستدامة الزراعية…؟
بكل سرور. خريطة خصوبة التربة هو مشروع بحثي مهم يتعاون فيه المعهد الوطني للبحث الزراعي مع المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة (إيكاردا). يهدف هذا المشروع إلى تقييم حالة صحة التربة بشكل مفصل من حيث محتواها من العناصر الغذائية الأساسية مثل الفوسفور والآزوت. هذا التقييم يمكننا من تحديد نقاط القوة والضعف في التربة ويساعدنا في توجيه المزارعين نحو استخدام أفضل الممارسات الزراعية التي تحافظ على خصوبة الأرض وتجنبها التدهور.
وما هي أبرز النتائج التي توصلتم إليها من خلال هذا المشروع…؟
لقد كشفت دراستنا لتربة الواحات عن نقصٍ حاد في المواد العضوية، مما يشكّل تحديًا بيئيًا ملحًّا يستدعي تدخلًا سريعًا لإعادة التوازن الطبيعي لهذه التربة وحمايتها. فالمواد العضوية تعتبر أساسًا في تحسين بنية التربة وصحتها، كما تعزز قدرتها على الاحتفاظ بالماء والعناصر الغذائية الضرورية للنمو الزراعي.
إضافةً إلى ذلك، لاحظنا ارتفاعًا ملحوظًا في ملوحة التربة نتيجةً للسنوات المتتالية من الجفاف، وهو ما يدعو لاتخاذ تدابير عاجلة لخفض مستويات الملوحة والحفاظ على جودة الأراضي الزراعية. من هنا تأتي الحاجة الملحّة لتشجيع الفلاحين على إجراء تحاليل للتربة بشكل دوري لتحديد احتياجاتها الدقيقة.
وقد لاحظنا خلال دراستنا كذلك نقصًا ملحوظًا في العناصر العضوية والفوسفور في بعض المناطق، مما ينعكس سلبًا على جودة التمور المنتجة. ويتطلب هذا الوضع إدخال أسمدة فوسفورية بشكل مدروس وعقلاني بناءً على نتائج التحاليل المخبرية، وذلك لضمان تلبية احتياجات التربة في أقرب وقت ممكن.
يبدو أن التغيرات المناخية تلعب دوراً كبيراً في تفاقم هذه التحديات. هل هناك حلول يمكن تطبيقها في هذا السياق..؟
بالتأكيد، التغيرات المناخية تزيد من تعقيد الوضع في المناطق الصحراوية، لكن هناك مبادرات واعدة لمواجهة هذه التحديات. من بينها مبادرة “الزراعة الصحراوية” في الواحات التي يشترك فيها عدد من الدول بالتعاون مع إيكاردا. تهدف هذه المبادرة إلى تطوير نموذج زراعي خاص بالمناطق الصحراوية، حيث نسعى من خلالها لتطبيق حلول مبتكرة لمشكلات متشابكة مثل الجفاف وندرة الموارد. المغرب الآن منخرط في هذه المبادرة، ونتطلع لجعل تجربتنا رائدة في هذا المجال بواحات الصحراء المغربية، خصوصاً أن هذا النموذج حقق نجاحات كبيرة في بعض دول الخليج التي تعاني من ظروف مناخية مشابهة.
هذه المبادرة تبدو واعدة. هل من الممكن توضيح كيف تختلف الزراعة الصحراوية عن الزراعة التقليدية، وما هي الخصوصيات التي تجعلها نموذجاً فريداً..؟
المناطق الصحراوية تختلف في طبيعتها عن المناطق الزراعية الأخرى؛ فهي تواجه جفافاً شديداً وموارد مائية محدودة. لذلك، الزراعة الصحراوية تتطلب تقنيات تتكيف مع هذه البيئة القاسية. من بين الخصوصيات الرئيسية التي نتبناها في هذا النموذج هي استخدام أساليب ري مبتكرة وممارسات زراعية تحافظ على الموارد وتقلل من تبخر المياه. ونركز أيضاً على زراعة محاصيل مقاومة للجفاف يمكنها التأقلم مع نقص المياه ودرجات الحرارة العالية.
كيف تعملون على تطوير تقنيات الري المنخفض في مناطق الواحات وما هي الفوائد المتوقعة من هذه التقنيات؟
نعمل حاليًا مع جامعة ماساتشوستس للتكنولوجيا بالولايات المتحدة الأمريكية على تطوير صمامات خاصة بالري تمنح تدفقًا منخفضًا للري، بمعدل 0.5 بار، مقارنةً بالصمامات المتوفرة في السوق والتي تعمل بضغط يصل إلى 2 بار. هذه التقنية الأمريكية الحديثة مناسبة لمزارعي الواحات لأنها تساهم في تقليل استهلاك الطاقة، حتى مع الاعتماد على الطاقة الشمسية، مما يزيد من فعالية واستدامة النظام تحتاج هذه التقنية إلى بنية تحتية ملائمة، حيث يجب تركيب أنابيب وصمامات متخصصة لتحمل ضغط المياه المنخفض. ثانياً، تحتاج هذه الأنظمة إلى صيانة دورية ومراقبة مستمرة لتجنب انسداد الأنابيب، خاصة عند استخدام مياه ذات جودة منخفضة. رغم هذه التحديات، أؤمن بأن التقنية تمثل فرصة حقيقية لتعزيز الأمن الغذائي والحد من الأثر البيئي للزراعة في المناطق الجافة. ولا يمكننا أن نغفل دور المعهد الوطني للبحث الزراعي في التنوع البيولوجي بمنطقة الواحات، حيث تم تصنيف أكثر من 300 نوع من أشجار النخيل، فيما نواصل جهودنا في “إيكاردا” لإدارة بنك الجينات لدعم التنوع الزراعي في هذه المناطق.
ما أهمية الزراعة الصحراوية في المغرب، وكيف يمكن أن تساهم في مواجهة تحديات المناخ وندرة المياه…؟
الزراعة الصحراوية تمثل ركيزة أساسية لمواجهة التحديات المرتبطة بندرة المياه وارتفاع درجات الحرارة، خصوصاً في المناطق التي تسجل معدلات هطول أمطار أقل من 100 ملم وحرارة تتجاوز 35 درجة مئوية. هذه الزراعة توفر حلولاً ذكية وتساهم في تقليل استهلاك المياه، خلافاً للطرق التقليدية المستخدمة في المناطق الأكثر وفرةً بالماء. المغرب يسعى للانخراط بفعالية في هذا المجال، ونحن حالياً نتعاون مع المعهد الوطني للبحث الزراعي، و “إيكاردا”، والوكالة الوطنية لتنمية مناطق الواحات، تحت إشراف وزارة الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات، لضمان تحقيق نتائج فعّالة ومستدامة تدعم هذا التوجه الزراعي الجديد.
دكتور مصدق، بما أن الواحات تعد من أبرز الأنظمة الزراعية في الصحراء المغربية، كيف ترى دورها في تحقيق الأمن الغذائي والاستدامة الزراعية؟ وما هي التحديات المحددة التي تواجهها هذه الواحات في ظل التغيرات المناخية والمائية..؟
الواحات تشكل جزءاً أساسياً من التراث الزراعي والثقافي في المغرب، وتلعب دوراً حيوياً في تحقيق الأمن الغذائي، خاصة في المناطق الجافة. هذه الأنظمة الزراعية ليست مجرد حقول للزراعة، بل هي نظم بيئية معقدة تتطلب إدارة متوازنة لضمان استدامتها.
أحد التحديات الكبرى التي تواجه الواحات هو تدهور المياه الجوفية نتيجة الإفراط في استخراجها لتلبية احتياجات الزراعة. كما أن تغير المناخ يؤثر على معدلات هطول الأمطار، مما يزيد من ضغط الجفاف على هذه المناطق. ولذلك، يجب التركيز على تقنيات الري الحديثة وإدارة الموارد المائية بشكل أكثر فعالية، بالإضافة إلى دعم التنوع البيولوجي في هذه الأنظمة لضمان قدرتها على التكيف مع التغيرات البيئية.
هل لديكم توصيات معينة لضمان نجاح تقنيات الزراعة المستدامة في المغرب…؟
نعم، هناك خطوات عديدة يمكن اتخاذها. أولاً، أعتقد أن التعاون بين الجهات الحكومية والعلمية ضروري لتطوير حلول تلائم الاحتياجات المحلية. كما أن التوعية بدور تقنيات الزراعة المستدامة بين المزارعين وإرشادهم إلى كيفية الاستفادة من هذه التقنيات بطريقة فعالة هو أمر حيوي بالاضافة الى تشجيعهم على إجراء تحليل للتربة . فإدارة الموارد بحكمة هي المفتاح لتحقيق الاستدامة في الزراعة، خاصة في الواحات التي تواجه تحديات بيئية عديدة.
في ختام حوارنا، كيف ترى مستقبل الزراعة الصحراوية في المغرب…؟
أرى أن الزراعة الصحراوية تحمل إمكانات كبيرة لمستقبل الزراعة في المغرب، خصوصاً مع تزايد الاهتمام العالمي بقضايا الأمن الغذائي والتكيف مع التغيرات المناخية. بالاعتماد على المعرفة المحلية والابتكار العلمي ومجهودات وزارة الفلاحة في دعم القطاع ، يمكننا تحويل التحديات إلى فرص. أتمنى أن نشهد مستقبلاً مزدهراً للزراعة الصحراوية بالواحات في المملكة المغربية ، وأن نكون نموذجاً رائداً في تحقيق الاستدامة في البيئات الصعبة بالصحراء المغربية.
شكراً جزيلاً لك دكتور رشيد مصدق على هذا الحوار الشيق والمعلومات القيمة. نتمنى لكم المزيد من النجاح في مساعيكم لتحقيق الاستدامة الزراعية في المملكة المغربية …
في ختام هذا الحوار، أتقدم بخالص الشكر لك، الأستاذ عادل العربي، ولمجلة ‘المحيط الفلاحي’ على دورها الريادي في إيصال المعلومات العلمية الدقيقة والمتخصصة إلى جمهور المهتمين والعاملين في القطاع الزراعي. كما أود أن أثني على جهود المجلة في تعزيز الوعي بأهمية الابتكار والتطوير المستدام، وأقدّر عالياً ما تبذلونه من جهود كبيرة في نشر المعلومة والمعرفة وتوفير منصة غنية تتيح تبادل الأفكار وتجارب الخبراء التي تساهم في دعم الزراعة الوطنية. أتطلع لأن نستمر معاً في مساندة مسيرة التنمية الزراعية وتحقيق مستقبل أكثر ازدهاراً واستدامة لهذا القطاع الحيوي
#المحيط الفلاحي: أجرى الحوار عادل العربي