سوق الحبوب… مغارة علي بابا
تحقيق : الدولة لا ترى حاجة ملحة للاستيراد والمستوردون يدقون ناقوس الخطر والرهان 270 مليار سنتيم من الدعم ـ هل تتهدد المغرب أزمة نفاد مخزونه من القمح الطري؟ غير صحيح، يقول مسؤولو المكتب الوطني المهني للحبوب والقطاني، الذي يعهد إليه بتدبير استيراد الحبوب وتموين السوق الوطني بهذه المادة.
بالمقابل يؤكد مستوردو الحبوب أن مخزون المغرب من القمح اللين لا يكفي سوى لسد حاجيات المطاحن لمدة شهرين على أقصى تقدير، ويطالبون، بالتالي، بضرورة رفع الحواجز الموضوعة على مستوى الكميات والواجبات المفروضة على واردات القمح اللين. موقفان متباينان يعكسان الوضع الملتبس الذي يميز هذا القطاع، خاصة أن الأمر يتعلق بإشكالية كبرى تهم منظومة دعم المواد الأساسية.
تميزت الأيام الأخيرة بعملية شد حبل بين المكتب المهني للحبوب والقطاني ومستوردي الحبوب، وكل طرف يقدم تبريرات لإثبات وجهة نظره، ففي الوقت الذي يطالب المستوردون بضرورة تجميد الواجبات الجمركية على واردات القمح اللين، من أجل تزويد المطاحن بكميات الحبوب الضرورية والكافية وبالسعر المحدد لضمان تموين السوق بالدقيق الوطني واستقرار سعر الخبز في 1.20 درهم، علما، يؤكد المهنيون، أن السعر الحالي لقنطار القمح الأوربي عند وصوله إلى الموانئ يصل إلى 315 درهما، وإذا أضيف إلى ذلك مبلغ الحقوق الجمركية (130 في المائة)، فإن الكلفة ستصبح، دون احتساب تكاليف النقل من الميناء إلى المطاحن في حدود 400 درهم للقنطار، الأمر الذي يتجاوز بكثير سعر البيع إلى المطاحن المحدد من طرف الدولة في 260 درهما للقنطار.
من جهته، يؤكد عزيز عبد العالي، المدير العام للمكتب المهني للحبوب والقطاني، أنه لن يسمح باستيراد أي قنطار من القمح اللين ما لم يتم تسويق القسط الأكبر من المحصول الوطني، وذلك حفاظا على مصلحة المزارع المغربي، مشيرا إلى أن الحكومة تتابع عن كثب عملية جمع المحصول الوطني وتراقب باستمرار مخزون المغرب من القمح اللين، وأنها لن ترفع القيود عن الاستيراد ما دام المحصول الوطني قادر على توفير حاجيات المطاحن من القمح اللين.
وتشير إحصائيات المكتب الوطني المهني للقمح والقطاني، إلى أن مخزون القمح اللين وصل عند متم غشت الماضي إلى 18.7 مليون قنطار، ما يمكن، حسب المكتب، من تلبية حاجيات المغرب من هذه المادة خلال أربعة أشهر على الأقل،علما أنه خلال بداية الشهر الجاري تقلص المخزون إلى 17.5 مليون قنطار. وأرجع مسؤولو المكتب ذلك إلى المحصول الجيد لموسم 2010-2011، الذي وصل إلى 84 مليون قنطار، وإلى الاحتياطات التي اتخذتها الحكومة من أجل رفع مستوى الاحتياطي الوطني.
ويؤكد المستوردون، من جهتهم، أن ما بين 25 و 30 في المائة من المحصول تعاني سوء الجودة بسبب الأمطار المتأخرة التي عرفها المغرب وأضرت بجودة الحبوب، ما يجعل الدقيق المستخرج من هذه العينة غير قابل للاستهلاك ويتعين مزاوجته بدقيق ذي جودة خلال عملية الطحن، ما يفرض، حسب المستوردين، فتح الباب أمام استيراد القمح اللين، علما أن الواردات تخضع حاليا لحقوق جمركية تعادل 130 في المائة.
ويحذر المهنيون أنه في حال تماطلت الدولة في تعليق الواجبات الجمركية على واردات القمح الطري فإن المطاحن ستواجه صعوبات على مستوى حاجياتها من القمح.
لكن المكتب الوطني المهني للقمح والقطاني، يصر بدوره على أن هناك ما يكفي من الحبوب لتلبية الحاجيات لمدة أربعة أشهر دون احتساب المخزون الاستراتيجي، ويستبعد أي أزمة مرتقبة في إنتاج الدقيق، خاصة أن المطاحن، حسب المكتب، اتخذت كل احتياطاتها وخصصت مخزونا خاصا بها، وتلجأ خلال عملية الإنتاج إلى خلط القمح المنتج محليا بالمستورد، ما يمكنها من تدبير معقلن لاحتياطها.
ويعتبر المكتب أن تبريرات المستوردين للمطالبة بإلغاء الحواجز الجمركية لا تستند إلى معطيات واقعية، وأن الأمر يتعلق بضغوط بعض اللوبيات من أجل تحقيق مكاسب تجارية، خاصة بعد تراجع الأسعار في الأسواق الدولية، ما يمثل فرصة بالنسبة إلى المستوردين لاقتناء الحبوب، خاصة القمح اللين الذي يحظى بدعم من الدولة. لكن هامش الربح لن يكون مهما إلا إذا قررت الحكومة تعليق الحواجز الجمركية، ما يفسر مطالبة الفاعلين في هذا المجال بتعليق الحقوق الجمركية والسماح باستيراد القمح اللين دون تحديد للكميات.
وتجدر الإشارة، في هذا الصدد، إلى أنه رغم وجود عدد من الشركات المستوردة للقمح، فإن قلة قليلة منها هي التي تسيطر على السوق، بل تسيطر على كافة الحلقات بدءا من الاستيراد ومرورا بالتخزين والطحن وإنتاج مختلف المنتوجات المشتقة من الدقيق، ما يجعل الحلقات التي يمر منها هذا المنتوج الرئيسي الممثل في الحبوب مغلقة ويصعب مراقبتها. يذكر أن المكتب الوطني للحبوب والقطاني كان يحتكر قبل 1996 استيراد الحبوب ويسهر على تموين السوق بهذه المادة الاستراتيجية، لكن تقرر بعد هذا التاريخ تحرير عملية الاستيراد التي أصبحت مفتوحة أمام الجميع.
لكن لا تسمح بنية السوق لأي كان باستيراد الحبوب رغم الإمكانية القانونية لذلك، إذ أن شركات قليلة تسيطر على هذه العملية وساهم قانون التحرير في هيمنة هذه الشركات عل السوق، الأمر الذي يجعل أن عملية الاستيراد تظل محتكرة من طرف أقلية من الشركات الكبرى، التي تخلق نوعا من التوافق في ما بينها للهيمنة على السوق.
وفي هذا الإطار يمكن تفهم الضغوطات التي تمارسها الشركات الكبرى لاستيراد الحبوب، خاصة القمح اللين، الذي يستفيد من دعم الدولة، الذي يناهز سنويا مليارين و700 مليون درهم، ما يوضح تهافت هذه الشركات لاستيراد القمح اللين ويطرح تساؤلات حول فاعلية نظام الدعم، علما أن الحكومة مازالت لم تتبن اختيارا واضحا.
وتجدر الإشارة إلى أن النظام السابق كانت فيه مشاكل، لكنه كان منسجما بمعنى أن الدولة تراقب وتدعم وتؤطر واليوم تخلت عن المراقبة ولكنها مازالت تدعم.
اختلالات في ميكانيزمات صرف الدعم
حددت الدولة حصة الحبوب التي تستفيد من الدعم في 12.5 مليون قنطار منها 10 ملايين قنطار من القمح اللين، وهناك مستويان من الدعم.
فعلى مستوى الإنتاج الداخلي، تقوم الدولة، ولو نظريا، عبر المكتب الوطني المهني للحبوب والقطاني بتدعيم سعر القمح اللين لضمان مستوى معين من مدخول الفلاح ولحمايته من المضاربة ومن تراجع أسعار هذا المنتوج في الأسواق الداخلية. إذ
تعمل التعاونيات الفلاحية المرخص لها بالقيام بهذه العملية باقتناء محصول الفلاح من القمح اللين بسعر حدد من طرف السلطات الوصية على القطاع في 280 درهما للقنطار. وهكذا عندما يكون السعر منخفضا في الأسواق، خاصة في شهر يونيو الذي يعرف وفرة في العرض خلال المواسم الفلاحية الجيدة، يصبح بإمكان الفلاح تصريف منتوجه بالسعر المحدد سلفا. لكن غالبا ما لا يستفيد من هذه الآلية سوى كبار الفلاحين ذوي النفوذ والعلاقات. وتجدر الإشارة، في هذا الصدد، إلى أن عددا من الفلاحين خلال الموسم الحالي ليتمكنوا من تصريف محصولهم بالسعر الذي حددته الدولة، إذ أن السعر ظل يتراوح ما بين 180 و 200 درهم للقنطار، وخلال الأسابيع الأخيرة ارتفع إلى 220 درهما.
وبالنسبة إلى المطاحن، فإنها بدورها تستفيد من دعم الدولة من خلال منحة التخزين و الطحن، لكن مقابل ذلك تلتزم الأخيرة بتزويد بائعي الجملة من دقيق القمح اللين المدعم بسعر في حدود 180 سنتيما للكيلوغرام الواحد والذين بدورهم يتعين عليهم بيعه بسعر لا يتعدى درهمين للكيلوغرام الواحد. غير أن هناك مجموعة من التلاعبات والتجاوزات تحدث على مستوى هذه الحلقة، فالسعر الحقيقي في الأسواق بالنسبة إلى الدقيق المدعم يفوق، في أحيان كثيرة، السعر المحدد من طرف السلطات.
و تجدر الإشارة إلى أن قطاع الحبوب يتضمن القمح الصلب الذي يعتبر محررا بالكامل ولا تتدخل الدولة فيه، والقمح اللين، ويشمل بدوره شقين: القمح اللين المدعم والمخصص بالأساس إلى إنتاج الدقيق الوطني، ويتعلق الأمر بكميات محددة في 10 ملايين قنطار، وسوق القمح اللين المحرر، الذي بدوره يستفيد من الدعم رغم تحريره في حال ارتفعت الأسعار على مستويات معينة، إذ تشترط الدولة على المستوردين أن لا يتعدى سعر وصول القمح اللين إلى المطاحن 260 درهما، من أجل أن تتمكن الأخيرة من تسويق الدقيق إلى المخابز بسعر في حدود 350 درهما، لكي تتمكن الأخيرة من تسويق الخبز من فئة 200 غرام بسعر لا يتعدى 1.20 سنتيم.
وهكذا وفي حال ارتفاع أسعار القمح في الأسواق الدولية إلى ما فوق السعر المحدد من طرف الدولة، فإن الأخيرة تتدخل من خلال منح الدعم للمستوردين للحفاظ على أسعار هذه السلسلة.
وفي هذا الإطار، فإن دعم الدولة أصبح يشمل كل حلقات القطاع، إذ أن سوق القمح الصلب المحرر كليا يستفيد أيضا من دعم الدولة، من خلال إعفائه من الواجبات الجمركية في حال ارتفعت الأسعار إلى مستويات معينة.
شركات محدودة تسيطر على حلقات قطاع الحبوب
دراسة تشخيصية لوزارة الشؤون الاقتصادية والعامة أبانت عددا من الاختلالات
تتدخل جهات عديدة في قطاع الحبوب سواء تعلق الأمر بالسلطات العمومية أو الشركات الخاصة، فهناك وزارة الفلاحة التي تتكفل بمتابعة وتقييم المحصول ومراقبة الجودة سواء في ما يتعلق بالمنتوج الوطني أو المستورد، ووزارة المالية التي تتدخل من خلال الواجبات الجمركية، والمكتب الوطني المهني للحبوب والقطاني الذي يتتبع تموين السوق ويشرف على غلاف الدعم المخصص للقمح اللين. ومن جهة أخرى، أنشئت العديد من الشركات التي تنشط في القطاع سواء من خلال الاستيراد أو إنتاج الدقيق أو تخزين الحبوب وتسويقها.
لكن هناك شركات كبرى تسيطر على السوق وتوجد في مختلف الحلقات، ما يجعل من الصعب على السلطات العمومية المسؤولة عن القطاع مراقبة وتحديد كميات الحبوب المتداولة في السوق الوطنية. فإذا افترضنا أن مجموعة اقتصادية تتوفر فيها هذه الشروط، فإن إمكانيات التلاعبات تصبح أكبر، إذ يمكن لوحدات التخزين أن تصرح بأنها اقتنت مباشرة من الفلاحين كميات معينة من القمح اللين المخصص لإنتاج الدقيق الوطني، دون إمكانيات بالنسبة إلى سلطات المراقبة للتحقق من ذلك، لأن الفلاحين لا يتوفرون على فواتير، من أجل التأكد، من خلالها، من الكميات التي قاموا بتسويقها.
وتتسلم هذه الوحدات دعما من الدولة على التخزين يصل إلى درهمين للقنطار لكل 15 يوما من التخزين. ومن المفترض أن المخزنين يسوقون الكميات المخزنة لديهم للمطاحن بسعر محدد في 258 درهما للقنطار في ما يتعلق بإنتاج الدقيق الوطني، على أن تنتج المطاحن الدقيق الوطني بسعر لا يتعدى 182 درهما للقنطار عند الخروج من المطاحن ليصل إلى المستهلك النهائي بسعر في حدود درهمين للكيلوغرام، علما أن الدولة تؤدي دعما يصل إلى الفرق بين سعر البيع والكلفة لفائدة المطاحن.
لكن يمكن أن تكون كل هذه العمليات وهمية، إذا كانت الشركات التي تنشط في مختلف هذه الحلقات تربطها علاقات خاصة، إذ أن التلاعب يبدأ من الكميات المصرح بتخزينها، ما دام أن وحدة التخزين المفترضة يمكن أن تصرح بأنها اشترت من الفلاحين كميات معينة دون أن يحصل ذلك في الواقع، وذلك في غياب وثائق وفواتير تضبط هذه الكميات، وانطلاقا من ذلك يمكن أن تدخل مع وحدات الطحن وإنتاج الدقيق في تلاعبات أخرى من خلال التصريح عبر الفواتير بتسويق الكميات الوهمية التي كانت مخزنة لديها لمطحنة معينة تنتمي إلى التجمع المصلحي عينه (مجموعة الشركات التي تربطها علاقات في ما بينها). ويمكن للأخيرة، بناء على الفواتير التي تسلمتها من وحدات التخزين، أن تستغل هذه الفواتير الوهمية للاستدلال على الكميات التي طحنتها في إطار إنتاج الدقيق الوطني، وتستلم على ذلك دعما من طرف الدولة مقابل الكميات المدلى بها التي تظل على مستوى الفواتير فقط، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يتعين لتحقيق ذلك أن يتواصل التلاعب إلى الحلقة الأخيرة، إذ أن بعض تجار الجملة وفي غياب المراقبة المطلوبة يوقعون فواتير لمثل هذه المطاحن على بياض مقابل عمولات، وتقوم هي بملئها بالكميات المطلوبة، وبذلك تكتمل السلسلة وتحبك اللعبة ويصعب ضبطها، علما أن التلاعب في هذه الكميات من الدقيق الوطني يعني حرمان شرائح معينة من المجتمع من هذا المنتوج، إذ أن الكميات المدعمة محددة في 10 ملايين قنطار من القمح اللين، وذلك بناء على خريطة مدققة لعدد الأسر المعوزة التي من أجلها تدعم الدولة إنتاج هذه الحبوب، وهذا ما يفسر غياب هذه المادة من بعض الأسواق والأحياء، التي تقطن بها أسر معوزة.
وتجدر الإشارة إلى أن وزارة الشؤون الاقتصادية والعامة خلصت في الدراسة التي أنجزتها حول منظومة الدعم إلى أن الأسعار المطبقة في السوق، في ما يتعلق بالدقيق المدعم، تفوق تلك المحددة من طرف السلطات العمومية، إذ يصل السعر المتوسط إلى 3 دراهم، في حين أن سعر البيع محدد في درهمين. وأكدت الدراسة وجود تلاعبات في ما يتعلق بالكميات المنتجة من طرف المطاحن وجودة المنتوج. واعتبرت الدراسة أن إتاحة الإمكانية لأرباب المطاحن لاختيار التجار الموزعين الذين يؤمنون تسويق الدقيق المدعم لا تساعد على التأكد من الكميات الحقيقية المنتجة والموزعة.
وهكذا يتضح أن هناك نقط ظل تغطي جانبا مهما من نشاط الشركات التي تنشط في هذا القطاع.
عبد الواحد كنفاوي: جريدة الصباح