الشمندر السكري ، أكثر من مجرد زراعة
لم يكن الهدف من زراعة الشمندر إنتاج السكر فحسب ، لكنه منظومة إنتاجية متكاملة ، يستفيد منها الفلاح ، المصنع ،التاجر ،التربة ، المناطق والوطن .
كانت النظرة “الحسنية” في إنتاج السكر مختلفة فلم يكن الملك الراحل الحسن الثاني ينظر له على أنه زراعة فحسب لكنه كان بمثابة خيار اقتصادي خصوصا أن المغرب اختار الفلاحة والصناعات الخفيفة بمساره الاقتصادي .
فالشمندر السكري من بين أهم الزراعات بالدورة الزراعية ، فالي جانب تنظيفه للتربة نتيجة لعمليات الصيانة ، فإنه يغدي التربة كذلك لما يتركه خلفه من كميات مهمة من المواد العضوية والمعدنية وبذلك فهو صديق لزراعة الحبوب والخضروات والكلأ مما يجعل الفلاحون الصغار منهم والكبار يحبدون زراعته .
يساهم الشمندر السكري كذلك في تقييم الإستتمارات المائية والتنمية الإجتماعية والإقتصادية ، والمشاركة بشكل غير مباشر في تنشيط قطاع زراعة منتجات الألبان كالأعلاف والأوراق .
الشمندر السكري بدكالة يساهم بنسبة 38 % وأكثر من الإنتاج الوطني من الشمندر السكري و قيمة انتاج أولية وثانوية تزيد عن 900 مليون درهم .
بمجال التشغيل الشمندر السكري بدكالة عبدة يخلق أكثر من مليون ونصف يوم عمل في السنة .
ويكفي المغاربة فخرا أن الشمندر السكري استطاع أن يوفر للمغرب أطرا فلاحية ضخمة ، ومن مدارس مختلفة ألمانية ، فرنسية ، بولونية وبلجيكية .
فلاحو دكالة .. معاناة بطعم السكر
“أنا أهتم بالشمندر أكتر من أولادي ” بهذه الجملة يبدأ عبد اللطيف الخلفي حديثه معنا وهو فلاح ينحدر من منطقة “ابني أخلف” ، يقول عبد اللطيف الشمنذر كالطفل بل كالجنين يحتاج لمعاملة خاصة من الصغر الى أن ينمو ، ويلزمه تتبع وحرث ودواء ، هناك نشوة كبيرة عندما يكون عندك انتاج جيد ويأتي أصحاب الجرارات لحمل الشمندر للمعمل ويعجبون بمنتوجك إنه وإدخال ثور كبير للسوق وتهافت التجار عليك أمر واحد ، شعور بالفخر وفرحة بالإنتاج .
لازلنا نحتاج لمعاملة أفضل من طرف المعمل ونطمح للإهتمام أكثر بالحلاوة لأنه لا يعقل أن تزداد اليد العاملة مع قلتها وأثمنة الأسمدة والأدوية والماء وكل وسائل الإنتاج وتضل عملية حساب تعويضنا من طرف المعمل على حالها ، الشمندر السكري فلاحة تجني أرباحا جيدة لنا كفلاحين وتوفر لنا الأعلاف وعدة امتيازات لكننا لا زلنا نبحث عن الإنصاف أكثر من طرف الجهات الوصية وخصوصا مع ما أضحينا نلمسه من رغبة أكيدة لدى وزارة الفلاحة وما وقفنا عليه بالمخطط الأخضر وهو ما يعطينا الأمل في العمل أكثر وأكثر من أجل أن يربح الجميع .
أعشاب ، أمراض وحشرات .. حروب على مر السنة ….
قبل بداية الموسم الفلاحي يقوم الفلاحون بدكالة بحرث الأرض جيدا ومع بداية الموسم السكري يقومون بزرع حبات الشمندر بشكل احترافي من خلال المكننة ، لكن تطور الزراعات السكرية رهين بالقضاء على عدة أعشاب ضارة و أمراض وحشرات تصيب النبتة ، فعلى مدار الأشهر التي يتواجد بها الشمندر بالتربة ، يعيش الفلاحون بدكالة حروبا مستمرة للقضاء عليها ، وتستمر المختبرات التقنية والشركات في البحث عن الحل .
تعتبر الأعشاب الضارة من بين أكثر الأعداء للحصول على منتوج عال من الشمندر ومن الممكن أن تؤثر على الإنتاجية بحوالي 80 بالمئة إذا لم يتم القضاء عليها .
ومن بين أخطر الأعشاب التي تضر بالشمندر السكري هناك “المدهون” و”الحميضة” و”برمرام” وحسب بعض الفلاحين والمرشدين الزراعيين فإنه إذا كان هناك ضرورة من معرفة تلك الأعشاب فالأهم هو معرفة وقت محاربتها والتحسيس بمخاطرها والمادة الفعالة للقضاء عليها .
وكغيره من النباتات يصاب الشمندر السكري بعدة أمراض مثل الحراقية والصدأ ومرض التعفن بالسكلروتينيا والفوما وهي أمراض خطرة تستدعي تواصل الأبحاث والتجارب للحصول على بدور مقاومة لمرض التعفن بالسكلروتينا الذي يهدد انتاج الفلاحين البسطاء .
ومن بين أكثر الحشرات التي يعرفها فلاحو دكالة والتي تؤتر على حقول الشمندر هناك النحاسية و الدودة السوداء وحشرة الكليون .
“الشمندريات” .. نساء أقوى من الرجال يحملن هم وطن….
على مقربة من دوار القواولة جنوب مدينة سيدي بنور يصطف النساء بشكل أفقي داخل الحقل ، منذ الساعات الأولى من الصباح تقف سيارة من نوع بيكاب تحمل “الشمندريات ” وهن نساء يجنين قوتهن اليومي من خلال العمل بحقول الشمندر السكري .
تقول بهيجة اشتغل بهذا المجال منذ صغري ، أخرجوني من المدرسة ولم أكن حينها أعرف شيء ، اشتغلت بالشمندر عندما بدأت أكبر وقابلت زوجي بحقل للشمندر ولازلنا نعمل معا الى يومنا هذا ، نتعاون على الحياة ومصاريفها ، نقضي اليوم بأكمله بالحقول لكيلا يخرج أطفالنا من المدرسة كما أخرجوني أنا ، لدي ولد وبنتين ونحصل أنا وزوجي على مدخول لأدرسهم بمدرسة بسيدي بنور لأراهم في مناصب كبرى ، مع الآلات لم يعد مرغوب بنا بالشمندر لكننا متشبتون به حتى يكبر أولادي ويحملوا عني الهم .
يحتاج الشمندر السكري لعمل كبير منذ زراعته الى غاية قلعه ، وأضحت المكننة تستعمل بكافة المراحل ، فمع دخول “المونوجيرم” أضحى زراعة الشمندر بالآلة أكثر احترافية وأكثر إنتاجية ، بحيث هناك أصول ودراسة بالزرع وحساب بين البدرة وأخرى والخط والآخر ، وأضحى اللجوء للشمندريات من أجل “التناقيص” و”التزاويد” ولإصلاح ما عجزت الآلة عنه مما جعل فرص اشتغال نساء دكالة بالشمندر بشكل موسمي بعد أن كان بالماضي بمختلف المراحل ، ومع تقدم دكالة في انتاج الشمندر السكري وتطور المحاصيل لتصل لمستوى دول كبرى بهذا المجال ، ستفتخر نساء دكالة على مر الزمان على قدرتها في تحسين المردودية والمساهمة في تطوير نسبة الاكتفاء الذاتي من مادة السكر .
مدينة سيدي بنور ومعمل كوسيمار .. افتخار بطعم العتاب..
اتصلنا بالسيد سعيد الزعام مدير وحدة الإنتاج بكوسيمار سيدي بنور لمعرفة مساهمة المعمل في زراعة الشمندر وانتاج السكر فقال أن المعمل يحقق كمعدل 35 بالمئة من الإنتاج الوطني من السكر ومن المتوقع أن ينتج هذه السنة حوالي 200000 طن من السكر وبمساحة مزروعة 16500 هكتار بحيث تم خفض المساحة نظرا لانخفاض مستوى السد .
ويعتبر معمل كوسيمار سيدي بنور من أكبر المعامل بالقارة السمراء ، حيث يتميز السكر الذي ينتجه بجودة عالية تجعل الشركات الكبرى للحلويات والمشروبات تتق به ، ويخلق المعمل فرص شغل قارة وأخرى موسمية تعود على المنطقة بالربح ، كما أنه لا يمكن أن نتحدث عن مدينة سيدي بنور بدون أن نذكره والعكس صحيح .
يفتخر سكان سيدي بنور بمنتوجاتهم الفلاحية من السكر واللحوم والحبوب ، وتجدهم دائما يعتزون بتواجد أكبر معمل لانتاج السكر بالمغرب وأكبر سوق بمدينتهم ، لكنهم بالمقابل يعتبرون المعمل غير مساهم بشكل كلي في تنمية المنطقة ، يقول حميد وهو من ساكنة المدينة أن الوحدة الصناعية بإمكانها أن تكون شركة مواطنة أكثر مما هي عليه وتنخرط في تنمية المدينة من خلال عدة مشاريع تنموية وبرامج مستدامة .
المكتب الجهوي للإستتمار الفلاحي بدكالة يتحدث لغة الأرقام
وللوقوف عن قرب عن واقع القطاع اتصلنا بالسيد عبد العزيز أوعقا عن المكتب الجهوي للإستتمار الفلاحي بدكالة لمعرفة واقع قطاع الزراعات السكرية بالمنطقة والأرقام المسجلة خلال الخمس سنوات الأخيرة ، فمدنا بتقرير مفصل عن الشمندر السكري وما يلعبه من دور بالنسبة للعملية الفلاحية والتنموية ككل ، بحيث يتم زراعة الشمندر بمناطق دكالة عبدة بشكل جيد يصل أحيانا الى أكثر من 19000 هكتار ، تستحوذ بها منطقة سيدي بنور على معدل 85 % وآسفي 8 % والجديدة 7 % وانتاج حوالي 200000 طن من السكر خلال السنة الأخيرة .
ويرى المكتب الجهوي للإستتمار الفلاحي بدكالة عبدة أن قطاع الشمندر السكري تطور بشكل كبير بالمواسم الأخيرة ، ليصل لمستوى دول رائدة بالميدان بحيث وصلنا بالمغرب لمستوى 14 طن بالهكتار الواحد من السكر الخام ، وهذا راجع لأمور تنظيمية وأخرى فنية ، فتنظيميا يعتبر القطاع الأكثر تنظيما بحيث تشرف لجنة اقليمية على اعتماد برامج سنوية وتتبع مختلف العمليات من حرث وزرع وحصاد وطحن ، ويمثل الفلاحين خلال هذه الهياكل جمعية منتجي الشمندر بدكالة عبدة والغرفة الفلاحية .
أما على المستوى الفني فلقد أضحى للفلاحين بدكالة عبدة معرفة جيدة بالميدان ودراية كبيرة بمختلف الأمراض والحشرات التي تهدد منتجاتهم ، كما ساهم استعمال المونوجيرم في الرفع من المردودية .
ويعرف القطاع عدة تحديات كتعفن الجدور وعدم الإلتزام بالدورة الزراعية نتيجة لصغر المساحات وتقسيمها مع الزمن .
وبالرسم البياني بالأسفل كل المعطيات والأرقام المحققة خلال الخمس سنوات الأخيرة سواء من حيث المساحة أو الإنتاج من السكر والأعلاف .
خبراء السكر .. التخطيط لتحقيق %60من الاكتفاء الوطني
وللتعمق أكثر بالميدان ، انتقلنا لمدينة الجديدة لمقابلة الحاج أحمد خديري مهندس إطار متخصص وخبير بالزراعات والصناعات السكرية ودراسة التربة ، ويعد من الأطر الألمانية بالمجال مسؤول سابق عن الوحدات الفلاحية الثلاثة ببني ملال ( معمل سوق السبت وبني ملال وأولاد عياد ) .
يفتخر بالأرقام المحققة وبأن المغرب نجح أن يكون الدولة العربية والإسلامية والإفريقية الأنجح في إنتاج السكر .
يقول هناك عدة أشياء يمكننا القيام بها ، من أجل تطوير الصناعات السكرية بالمغرب ومنها على الخصوص إعطاء أهمية أكبر للتربة وتحليلها حسب المناطق للحصول على نتائج أكبر .
ويرى خديري أن التكوين والتكوين المستمر أمر في غاية الأهمية وذلك بخلق مراكز لتعليم أبناء الفلاحين طرق زراعة الشمندر وكميات الأسمدة والأدوية وكل شيء ، لأنه إذا كنا نحقق أرقاما كبرى تضاهي ما تحققه دول أخرى فإنه بمقدورنا الحصول على أفضل من ذلك لو استثمرنا بالعنصر البشري .
ويعتبر المهندس الفلاحي زراعة الشمندر السكري ثروة وطنية يجب الحفاظ عليها وتطويرها أكثر وأكثر لأنها تتجاوز مفهوم الفلاحة لما هو تنموي من خلال فرص الشغل التي توفرها والقدرات الهائلة التي تقدمها ، لأن معامل السكر بدكالة وتادلة والغرب واللوكوس وملوية كان الغرض منها إعطاء دفعة لتلك المناطق وخلق أطر فلاحية قادرة على تقديم الإرشاد والتتبع للفلاحين وبمختلف الزراعات وهو ما نجح به المغرب مع خروج الاستعمار بوجود طواقم وخبرات مغربية مئة في المئة .
مطالب الفلاحين للرفع من المردودية
من خلال دراسة ميدانية قمنا بها على 100 عينة عشوائية للمزارعين بمختلف مناطق سيدي بنور ، يرى 44 % منهم أن السبب الرئيسي في تحسين المردودية بقطاع السكر هو الزيادة في ثمن التعويض المحدد من طرف المعمل ، بحيث يعتبر هؤلاء أن العملية الحسابية غير منصفة في حقهم مما يجعل بعض الفلاحين ينقصون المساحة المزروعة ويتجهون لزراعات أخرى .
أما 20 % منهم فيرون أن خفض ثمن الأدوية والأسمدة كفيل برفع المردودية وتحقيق إنتاج كبير من مادة الشمندر السكري ، على اعتبار أنهم لا يقدمون الأسمدة والأدوية بشكل كاف نظرا لغلائها بالسوق الوطنية .
بنفس النسبة السابقة يرى 20 % من الفلاحين أن الإرشاد الفلاحي وخصوصا بالنسبة لعملية الزرع والقلع والإخبار بالأمراض قادر على تحسين الأرقام المحصلة بهذا المجال .
أما 11 % فيعتبرون توفير مياه السقي بشكل مستمر قادر على الحصول على محصول جيد من الشمندر ، معتبرين الشمندر من الزراعات التي تحتاج المياه بشكل متواصل وكبير .
أما 5 % من الفلاحين فيرون ضرورة قيام الجهات الوصية بتوفير تحليل للتربة بشكل دوري ، واستند أغلبهم على حاجة أراضي دكالة للبوتاس أكثر منهم لمواد وأسمدة متوفرة بالتربة بشكل جيد .
الذهب الأبيض .. فلاحة متوارثة بين أجيال دكالة
يتجول العوني بالحقل الذي اكتراه ومعه ابنه معاد ، وهو يمشي يقطف بعض النباتات ويفعل ابنه نفس الشيء ، وعند سؤالنا له من جدوى ذلك أخبرنا أنها تؤثر على الشمندر ، ويشير إلى ابنه ويقول إننا نعلم أبناءنا زراعة الشمندر السكري ، ورغم المكننة التي يفرضها المعمل فنحن نلقن أبنائنا حب الأرض ومعه حب الوطن ، فالشمندر رغم كل ما يقال عنه وظروف اشتغالنا يبقى مربحا مقارنة بزراعات أخرى .
أحب أن أقول لكل مغربي قبل أن تشرب كأس من القهوة أو الشاي ومعه بعض الحلويات تذكر أن بعضهم يعمل من أجل أن يوفر لك ذلك وهمه الوحيد أن تشرب سكرا مغربيا بجودة عالية .
ودعنا سيدي بنور وكلنا أمل بمغرب أفضل خصوصا بعدما لمسنا مقاومة ووطنية قل نظيرها بهذه البقعة من مغربنا الحبيب حيث يرسم الفلاحون البسطاء معالم اقتصاد فلاحي قوي مواكب لمخطط المغرب الأخضر ، تنسج إستراتيجيته نساء ورجال دكالة في تناغم قل نظيره .