البحث الزراعي في المحك: قراءة في التقرير السنوي للمجلس الأعلى للحسابات برسم سنة 2014 -الجزء الاول-
وأخيرا جاءنا “الخبر اليقين” من المجلس الأعلى للحسابات الذي دقق عمل مؤسسة المعهد الوطني للبحث الزراعي بالمغرب، حيث خصص له في تقريره لسنة 2014 الذي رفع عنه الستار أخيرا 18 صفحات من صفحة 109 الى صفحة 127، الى جانب 9 مؤسسات اخرى عمومية و شبه عمومية. وكباحث فخور بتجربتي المتواضعة داخل هذه المؤسسة التي تجاوزت الثلاثين سنة تناوب على المسؤولية في إدارتها مدراء أربعة ، لا بد لي من إبداء “ملاحظاتي” على ” الملاحظات” التي جاءت في التقرير وعلى الرد المقتضب لإدارة المعهد الذي وفانا به ايضا هذا التقرير (كان من الاحوط ان نتوصل بتقرير شامل الخاص بردود الإدارة حول جميع الملاحظات المبدية حتى نقيم مدى انسجامها مع الواقع و الحقيقة المعاشة… لم يتم ذلك في ظل دستور 2011 الجديد الذي يلح على حق المواطن في المعلومة).
أشير في البداية ان لجنة التدقيق التي حلت بالمعهد حررت تقريرها – كما أتصور و اعتقد- وفق الاستنتاجات التي خلصت إليها بعد لقاءات مطولة احيانا بينها وبين عينة من الباحثين و الباحثين المسؤولين و الإداريين سواء على الصعيد المركزي او الجهوي، وحسب رؤية كل واحد من هؤلاء حول المؤسسة والبحث المدار فيها لها ما لها و عليها ما عليها، يمكن ان تلمس الصواب كله كما يمكن ان تجانبه جزئيا او كليا.
التعريف بالمعهد الوطني للبحث الزراعي
المعهد الوطني للبحث الزراعي مؤسسة عمومية تم إحداثها بموجب القانون رقم 80-40 بتاريخ 29 دجنبر 1980. وتتمثل مهامه في البحث الأساسي والتطبيقي وكذا تسويق النتائج المحصل عليها والاستشارة بالإضافة إلى نشر نتائج الابحاث لفائدة هيئات الارشاد الفلاحي والفلاحين. يعتبر المعهد فاعلا أساسيا في النظام الوطني للتكوين والبحث الزراعي -SNFRA- إلى جانب كل من معهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة والمدرسة الوطنية للفلاحة والمدرسة الوطنية الغابوية للمهندسيين ومؤسسات التعليم التقني والتكوين المهني .في سنة 2013، تمت إعادة صياغة النظام الوطني للتكوين والبحث الزراعي من طرف وزارة الفلاحة والصيد البحري عن طريق تفعيل إنجاز المشاريع المتعلقة بالرؤية الاستراتيجية الجديدة لهذا النظام وكذا التنظيم الهيكلي الجديد وتعزيز الانسجام بين كافة مكوناته. عند نهاية سنة 2014، بلغ عدد العاملين بالمعهد 922 إطارا وعونا. منهم 156 يشتغلون بالمقر المركزي للمعهد فيما يتوزع الباقي على عشرة مراكز جهوية للبحث الزراعي. ويتألف العاملون من 187 باحثا و187 تقنيا و490 من أعوان الدعم و58 إداريا . في 2014 بلغت ميزانية المعهد 302 مليون درهم منها 187 مليون درهم مخصصة للتسيير و115 مليون درهم للاستثمار. ويشكل دعم الدولة 89 بالمائة من موارد المعهد بينما تمثل الموارد الذاتية أقل من 10 بالمائة من ميزانية التسيير حيث بلغت 18 مليون درهم سنة 2013 . يتوفر المعهد على المستوى المركزي على ثمانية أقسام تتكلف حسب مجال اختصاصها بوضع التوجهات والمخططات وكذا تنسيق وتتبع وتقييم البحوث .وتتم أنشطة البحث داخل 23 وحدة بحث موزعة على عشرة مراكز جهوية للبحث الزراعي. ويمثل كل مركز قطبا للخبرات والكفاءات موجها للنظام الزراعي الإيكولوجي للجهة التي يتواجد بها المركز. وتتوفر هذه المراكز على 22 ضيعة للتجارب مخصصة للاختبار ونشر التكنولوجيا. منذ سنة 2005 يتم تخطيط البحوث الزراعية في إطار مخططات بحث متوسطة المدى PRMT – – تمتد على أربع سنوات وتهدف إلى تنظيم أنشطة البحث بشكل موضوعاتي وحسب الجهات الترابية. وقد تبنى المعهد ثالثة برامج همت الفترات التالية: 2008-2005 و2012-2009 و2016-2013.
الملاحظات :
أولا : مهام و حكامة المعهد
جرت العادة بالمؤسسة حسب عدد من استراتيجيات البحث التي مرت بها ان تلتجا الى الشركاء الجهويين او الوطنيين عبر ايام دراسية خاصة تهم الإكراهات المطروحة للفلاحة المغربية و ترجمتها الى مواضيع بحوث قابلة للإنجاز، ان على المدى القصير او المتوسط، ويصادق عليها و تحر ر في المحاضر و يستدل بها نظريا كالعادة امام كبار المسؤولين في القطاع او في الدولة بان المؤسسة تعمل وفق حاجيات المزارعين المغاربة. والنتيجة، لنكن غاية في الصراحة، لا شيء و لا احد يلتفت الى المؤسسة و باحثيها لا من قريب ولا من بعيد، عدا بعض التحركات الخجولة… ويجد الباحث العامل نفسه مرة اخرى وحيدا يجتهد ويجد في فضاء كله له في اقتراح البحوث الذي املاه عليه استقراءه لمحيطه الفلاحي بعد رصد حسب الإمكانيات المطروحة الإكراهات و تمحيص الحلول الممكنة و استنتاج الأفضل منها، مترقبا في نفس الوقت وفي كل حين الفرص من اجل الظفر بمشروع محلي او دولي من اجل المسايرة والإبداع والتفاني في فضاء بحوثه التي رسمها لنفسه وفق خبرته لاحتياجات جهته او وطنه والتي تجانب الصواب الا قليلا. فالباحث باعتباره خبيرا في مجال تخصصه يعرف حق المعرفة حاجيات بلده من نوعية البحوث المطلوبة، ولكن يبقى مكتوف الايد في تصريفها و تنزيلها لان ليست هناك إرادة قوية من كل المتدخلين في سياسة الدولة الفلاحية بالارتقاء بالبحث الزراعي في بلادنا، والارقام هنا تتكلم، اذ تمثل ميزانية المعهد 0,28 بالمائة من الناتج الداخلي الخام الفلاحي، أي أقل بعشر مرات مقارنة مع بلدان أخرى كفرنسا على سبيل المثال التي تشكل فيها 2,79 بالمائة كما يقره ذات التقرير.
اما تداخل أنشطة المعهد مع مهام مؤسسات اخرى الذي انتقده التقرير، فذلك أمر طبيعي بل و اجب لان المعهد لا يعمل في فضاء مغلق، بل في مجال مفتوح على مصراعيه، يتوجب عليه إشراك الآخرين في التكنولوجيات الجديدة المحصل عليها و مرافقتهم في سبيل التطبيق الأمثل لها في الواقع المعاش.
اما ما يخص تأطير الدكاترة او الطلبة المهندسين، الذي قال عنه التقرير انه ضعيف، فيمكن القول ان هناك كثيرا من الباحثين الذين سجلوا أرقاما قياسية في عدد الطلبة الذين استفادوا من مختبرات المعهد لانجاز بحوثاتهم، ضمنهم كاتب هذه الملاحظات الذي أطر 61 طالبا منهم 14 من الدكاترة و 21 من الماجستير و 11 من المهندسين و 13 من اصحاب الإجازة ودونها، و 3 طلبة اساتذة من الجزائر و تونس و بلجيكا، بإمكانيات محدودة جداً. وكذلك الشان بالنسبة لزملائي الآخرين وبجودة تفوق بكثير نظيرها في الجامعات باعترافهم هم انفسهم. وهناك في المقابل باحثون مقتدرون آخرون فضلوا إيقاف التأطير في أوقات متباينة لمسارهم البحثي نظرا لتجارب فاشلة مع بعض الأساتذة الباحثين. فالعمل المشترك الان بين معهدنا و الجامعات الناجح مرده الباحث و الاستاذ الباحث و درجة الصداقة الحقيقية و الوعي العلمي الجاد بين الطرفين. و بدون ذلك، أبانت التجارب هنا وهناك بالفشل في مثل هذه العلاقات التي تتميز بغياب روح المسؤولية لدى بعض شركاءنا في الجامعات.
اما البحث، الذي سنعود اليه في الجزء الثاني من هذا المقال، فلمعهدنا السبق في الحصول على حلول عملية و قيمة لإكراهات و مشاكل الفلاحة المغربية المطروحة والإبداع كل في مجال تخصصه. فإطلالة سريعة للتقارير السنوية التي يصدرها المعهد لكفيلة لمعرفة المستوى العالي للبحوث المنجزة في كل من الانتاج النباتي او الحيواني، و التقرير السنوي إنما هو تقرير مختصر جداً جداً لما أنجزه الباحثون بالمعهد الوطني للبحث الزراعي. اما إذا رجعت الى التقارير العلمية الام التي يضعها الباحثون رهن إشارة الإدارة كل سنة، لتوقفت على حجم كبير جداً منها يصعب على القسم العلمي بالمعهد اختصاره في تقرير مقتضب محدود.
ضعف منظومة الحكامة:
ملاحظة أولى لا بد من الإشارة إليها بداية تهم المجلس الإداري و انشغالاته ومال قراراته، فالباحث لا يعرف عنه شيء و لا عن قراراته الا في السنتين الأخيرتين حيث يستدعى المسؤولون الجهويون و المركزيون و الإداريون للاستماع الى عرض حول النقاط المدرجة في جدول الأعمال و القرارات المتخذة ليس الا.. دون ان يتبعه نقاش مستفيض، علما ان بعض الملفات التي تهم مثلا تحفيز والاهتمام بالعنصر البشري بالمعهد لا تثار الا خجلا وان أثيرت كما هو الشان مثلا بالنسبة لبقعة أرضية تابعة للمعهد الوطني للبحث الزراعي (محطة التجارب بالكودية) و التي قرر المجلس في أحدى دوراته تفويت 40 هكتار منها لفائدة شغيلة المعهد المناضلة تقلصت الى 10 هكتارات بفعل فاعل نافد بالوزارة الوصية.. والى حد كتابة هذه السطور، لم يتم شيء في هذا الملف، في حين قطاعات اخرى حتى خارج الفلاحة استفادت من أراضي فلاحية قامت فيها بمشاريع السكن، ولا عيب.
اما القرارات الصادرة عنه التي تهم التسيير الأمثل و الرفع من وثيرة تطور البحث العلمي الزراعي، و الرفع من جودته، لا تتوج حقاً كما جاء في التقرير بمقررات عملية مجسدة في الواقع. وهنا يطرح سؤال جوهري عن جدوى مثل هذا المجلس؟ ما دامت المؤسسة لا تنتعش بوجوده كما الباحث لا يحس به كقيمة مضافة تساهم جليا في الارتقاء بالبحث والاهتمام بشغيلة المعهد.
اما الكلام عن محدودية جهازي التدقيق الداخلي ومراقبة التسيير، فالأصل في الأشياء ان تدقق و تحاسب و تراقب جهازا او وحدة او باحثا وفرت لهم المنظومة الوسائل الكافية لإنجاز مهاماتهم. اما الكلام عن تعزيز جهاز المراقبة الداخلية سابق لأوانه إذا كنا فعلا نطمح لبحث زراعي راق، منتعش ومفيد، لان كما يقال “فاقد الشيء لا يعطيه” دون الدخول في التفاصيل الان….
د. الحسن اشباني
مدير بحث بالمعهد الوطني للبحث الزراعي
ملاحظة : الجزء الثاني سيتم نشره الاسبوع المقبل
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.