إلى مـهنــيــي قــــطــاع الــدواجـــن : ما بعد جائحة كوفيد-19: إستمرار للأزمات أم أمل في التغيير نحو غد أفضل ؟
# د. عبدالله أيت بولحسن..
جائحة كورونا كارثة كونية بكل المقاييس، لها تداعيات سلبية قصوى و مفاجئة على الجانب الاقتصادي، حيث أجبر الحجر الصحي قطاعات اقتصادية معينة على إيقاف كل أنشطتها، في حين واصلت قطاعات اقتصادية أخرى نشاطها باعتبارها ضرورية، مثل قطاع الدواجن. لو حدث العكس لكانت الضربة القاضية للقطاع.
انه يصعب تخيل ماذا سيكون الحال عليه لو توقف النشاط توقفا قسريا مثل القطاعات الاخرى، حيث لا يستطيع أي مربي بيع إنتاجه. ولكن على الرغم من أن الأمر ليس كذلك، فقد غرق قطاع الدواجن في أزمة خطيرة بعد توقف بعض قنوات التوزيع، خاصة المطاعم بكل أنواعها و الأسواق الأسبوعية، التي تشكل أكثر من 45 ٪ من الطلب.
سيحتاج القطاع إلى وقت طويل لتعويض الخسائر الفادحة التي تكبدها، و سيكون بعض المربين بالخصوص في وضعية نفسية جد متأزمة. لكن سيسترجع سوق الدواجن نفسا جديدا…، وأخشى أن ينسى غالبية المربين والفاعلين في القطاع ما وقع، وأن تصبح هذه الأزمة الكارثية حدثا من الماضي، نتذكره ربما بألم ولكن دون أن نستفيد منه بأي عبرة أو درس يذكر!!!
في الواقع، لقد تلقينا العديد من التحذيرات في الماضي: من أزمات الحملات الإعلامية لإنفلونزا الطيور “هونغ كونغ H5N1” وحادثة مدينة سلا في بداية 1998 لمن يتذكر، و أزمة الديوكسين (dioxine) بلجيكا في 1999، و كذلك أزمة وباء إنفلونزا الطيور
H1N1 في 2005 بالرغم أن هذا الفيروس لم يصل لبلدنا، إلى أزمات واقعية كأنفلونزا الطيور الخاص بالدواجن H9N2 في نهاية 2016.
النتيجة هي نفسها في كل مرة: صدمة قوية للقطاع، انخفاض مفاجئ في الطلب، يليه انخفاض في الأسعار وتمديد قسري لدورة الإنتاج لما فوق 42 يوما.
مما يجعل المربي يغرق أكثر فأكثر، و تمتد بعد ذلك الخسائر المالية الفادحة للمربين لكل القطاع، و للاقتصاد الوطني في آخر المطاف. وفي كل مرة يغادر القطاع من لم يستطع أن يتحمل أكثر من طاقته، و يلتحق مربون ومستثمرون جدد، مخاطرين جدد، في انتظار أزمة أخرى و غربلة أخرى في الألم، و ضربة أخرى لنجاعة الاقتصاد الوطني،
ومع ذلك، نعود بسرعة إلى نفس الممارسات و نشتغل بنفس الطريقة، في إطار نفس نظام الإنتاج، دون حتى أن نكلف أنفسنا طرح
الأسئلة البديهية : لماذا هذا التأثير السلبي و القوي جداً للعوامل الخارجية؟ لماذا يعيد التاريخ نفسه و تتكرر نفس الأزمات…؟
من المسؤول…؟ وكيف نقوي مقاومة القطاع للأزمات الطارئة…؟ والأسوأ من ذلك، بدلا من طرح هذه الأسئلة الحقيقية، مثلا من خلال مقارنتنا بالدول الأخرى التي يكون فيها لهذه الأزمات تأثير أقل على القطاع، فإننا سرعان ما نفسح المجال للسلوك المتمثل في “إلقاء اللوم
على الآخر” و ” إنكار المسؤولية الذاتية”، بل يذهب البعض في بعض الأحيان للإشارة إلى شركاء في سلسلة الإنتاج كأعداء وأصل كل مصائب السوق!!!
كل الأزمات والكوارث عبر التاريخ تجعل الإنسان يفكر بطريقة مختلفة إن أراد التقدم إلى الأمام. لذلك، فوباء كوفيد-19 وتجلياته التي لا تحصى في كل مظاهر حياة الناس، هو ربما مناسبة لدعوة الجميع إلى أخذ استراحة، إلى التفكير بطريقة أخرى، في أسلوب حياتنا، في علاقتنا مع الآخرين، في دورنا في المجتمع بما فيه دورنا المهني في القطاع الذي نشتغل فيه. و بالعودة إلى قطاعنا، يجب على الأقل أن نفهم و نقبل أن الأزمات المتكررة هي نتيجة حتمية لنظام إنتاج الدواجن، نظام يتشبث فيه كل فاعل بـ “استقلاليته” عن بقية شركائه في سلسلة الإنتاج. عن كونه “مركز قرار مستقل” لا يهتم بتخطيط الإنتاج ولا بتوافقات مع الشركاء، فمنذ السبعينات ونحن نعيد نفس النمط “راسي يا راسي”، من مربيين مستقلين، و محاضن مستقلة، ومصانع أعلاف مستقلة، ومجازر مستقلة، و شركاء مستقلين … مع العلم أن الجميع يستثمرون لهدف واحد ومشترك: إنتاج مادة خام واحدة هي
دجاج حي في دورة من 5 إلى 6 أسابيع و وزن من 1,8 إلى 2,2 كلغم كمعيار للنجاعة الاقتصادية. وفي هذا المستوى تنتهي كليا وظيفة سلسلة الإنتاج بتوفير المنتوج الخام للمتدخلين في قطاع التسويق المتكون من منفذ وحيد: سوق الدجاج الحي.
هذا النظام يفترض أن سوق الدجاج الحي قادر على استيعاب الإنتاج الأسبوعي لـ 9-8 أو حتى 10 ملايين دجاجة في أي وقت وفي أي ظرف، وكلما توقف سوق الحي كليا أو جزئيا لسبب من الأسباب كما هو الحال اليوم، يغرق الجميع بحيث لا ينخفض الثمن فقط، بل لا يمكن تسويق المنتوج، ليجد المربي – الحلقة الأخيرة في سلسلة الإنتاج – نفسه محاصرا لا يدري ما يقدم وما يؤخر، بمنتوج لا يريده أحد. و بسرعة تنتقل الأزمة إلى الروابط الأخرى من سلسلة الإنتاج، من محاضن ومصانع الأعلاف والشركاء الآخرين. مما يدل بوضوح على أن نظام التسويق الحالي:
* لا يوفر أي إمكانية لاستيعاب فائض الإنتاج كما هو الحال في معظم الدول…
* أي فائض في الإنتاج (بوشون) يؤدي إلى تفاقم اضطراب السوق، مما يزيد بشكل كبير من خسائر المربين وكذلك من
مخاطر المزودين،
* انخفاض الأثمان الحاد (8-6 دراهم يؤثر بشكل سلبي على صورة المنتوج، ويجعل جودته موضع شك عند المستهلك حتى في الوضع العادي بعيدا عن أي زلزال خارجي كالأوبئة، فنظام التسويق الحالي لا يستطيع أن يضمن الحد الأدنى من
توازن العرض والطلب، لأنه لا يمنح أصلا أي وسيلة لقياس الطلب أو معرفة العرض المتوفر فعليا ولو على مدى أسبوع،
لذلك تنعدم الشفافية كليا في عملية اكتشاف ثمن البيع، ما يلزم المربي أن ينتظر اليوم الفعلي للبيع لمعرفة الثمن و أن يقبل
بأي عرض إن أراد أن “يتخلص” من منتوجه و عرق جبينه.
الخلاصة المهمة من هذا التشخيص هو أن حرص كل الفاعلين بالقطاع على الاستقلالية في اتخاذ قرارات الإنتاج، بدون حد أدنى من التنسيق بين حلقات السلسلة ، ما هو في الحقيقة إلا شعور وهمي، لأنه في النهاية، عندما يغرق السوق فالجميع يغرق. بعبارة أخرى، ما هي المنفعة من أن أكون مقاولا حرا أقرر لوحدي متى وكيف و كم أربي من دجاج، علما بأن بعد شهرين من العمل
الشاق، سأدخل إلى سوق لا أعرف مستوى الطلب ولا الكميات المعروضة فيه للبيع، و تحدد فيه الأسعار من طرف وسطاء، مرجعيتهم وسطاء/ تجار سوق الجملة بالدار البيضاء الذي يمثل اليوم أقل من 5% من العرض.
وهنا يجب الاعتراف بأنه في السنوات الأخيرة تخلى أغلب المربون عن الحضور الفعلي في السوق عند البيع، تاركين المجال مفتوحا
للهاتف النقال للتحكم في السوق، و مكرسين بذلك القطيعة الفعلية بين قطاع الإنتاج و قطاع التوزيع، حيث أصبحت وظيفة قطاع
الإنتاج (مربون و محاضن و معامل الأعلاف) تنحصر في توفير المادة الخام (دجاج حي) دون أي إمكانية لتثمينها أو تتبع جودتها ومعرفة آراء وتطلعات المستهلك حيالها، وهذه نقطة ضعف مهمة جدا تنعكس سلبا على صورة المنتوج و على بناء روابط الثقة مع
المستهلك، وترهن بشكل كبير تطور استهلاك لحوم الدواجن. وللتذكير فقطاع إنتاج الدواجن في بلادنا عرف تطورا مهما كماً وكيفاً، خاصة بعد 1995 حيث أصبحت غالبية مشاريع الدواجن تتوفر على بنيات و تقنيات في مستوى الدول الرائدة في إنتاج الدواجن. لكن وقع العكس تماما في قطاع التسويق و التوزيع، حيث ظل يشتغل بنفس الطريقة منذ بداية الإنتاج التجاري للدواجن في السبعينات والتي ترجع هي الاخرى إلى طريقة تسويق الدجاج البلدي في الخمسينات و بداية الستينات، عندما كان المغرب يصدر كميات مهمة من الدجاج البلدي الحي إلى فرنسا انطلاقا من ميناء الدار البيضاء. الفرق بين الامس واليوم، بين سوق “الدجاج البلدي” و سوق “الدجاج البيض”، لا يتعدى كميات العرض و نوعية وسائل النقل، لكن الأهم لم يتغير حيث نفس الميكانزمات في تحديد الأسعار. بعبارة أخرى نفس “البيع و الشرا” و حتى نفس مكان السوق المرجعية، رغم الانتشار الواسع للإنتاج في كل ربوع المملكة.
هذه الازدواجية في تطوير و تحديث أدوات الإنتاج من جهة و تكريس نفس النظام التقليدي للتسويق من جهة أخرى، هو العائق
الأساسي المسؤول عن هشاشة القطاع أمام الأزمات، و هو الفرق الأساسي بيننا و بين الدول التي تتوفر على سلاسل مندمجة لإنتاج و توزيع الدواجن، التي تصمد أمام الهزات العنيفة مثل جائحة كوفيد-19. ودون الحديث عن الدول المتقدمة (تقريبا صفر خسائر عند المربين رغم فقدان أكثر 50% من قنوات التوزيع). أكتفي هنا بمثال تونس و الأردن حيث ظلت الأسعار في مستوى معقول نتيجة سحب فائض الإنتاج وذبحه و تخزينه، توازيا مع البرمجة السريعة للنقص في إنتاج الكتاكيت.
وأخيرا، يجب التذكير بأن لحوم الدواجن تأتي في المرتبة الأولى عالميا على مستوى الإنتاج (125 مليون طن) و الاستهلاك والمبادلات التجارية الدولية نظرا لجودتها العالية الغذائية و الصحية، و ثمنها المناسب و الأقل تكلفة. و هذه المزايا كلها لم تأتي صدفة، وإنما عن طريق مجهود وتراكم علمي لم يتوقف منذ أكثر من 70 سنة في البلدان المتقدمة بالخصوص، أدى في السبعينات إلى بروز مفهوم السلسلة المندمجة لتربية الدواجن كمنظومة اقتصادية ناجعة تعتمد على 3 مبادئ أساسية أولها التخطيط و التنسيق الأفقي
للإنتاج، وثانيا حماية مصالح جميع المتدخلين في القطاع، في إطار توافقي ومقنن بقوانين، وثالثا الاستجابة لتطلعات مختلف شرائح المستهلكين لمنتوج صحي و في متناول الجميع. و أدى تفوق هذا النموذج الاقتصادي لإنتاج الدواجن إلى انتشاره في كل الدول، بما فيها دول مشابهة لبلدنا، فهل سنلتحق بالركب… ؟؟؟