مجلة المحيط الفلاحي

مزارعو وقاطفو الزهرة البنفسجية يكدحون في صمت من أجل منتوج يواجه مشاكل في التسويق

الساعة تشير إلى السادسة صباحا. الشمس ترسل أشعتها الأولى منذرة بيوم صيفي حار، لم تقهر سخونته عشرات الفلاحين، نسوة وصبية، وبعضا من الرجال، الذين انتشروا في حقول الخزامى، على امتداد البصر، بتارميلت القريبة من والماس المزهوة بجبالها، التي تدشن سلسلة الأطلس المتوسط.
فلاحون بكوفيات صوفية وشاشيات أو “إشاربات” تغطي كامل وجوههم، خوفا من ضربات الشمس، انقسموا مجموعات، وانهمكوا، كل في وظيفة خاصة، منهم من يحصد النبتة بتفان، وآخرون يجمعونها بعناية داخل أكياس من القش، تحمل في شاحنة تتكفل امرأة ثلاثينية في ترتيب محتوياتها بدقة، دون خلط بين ساق النبتة وزهراتها البنفسجية، لتنقل في اتجاه “القاعة”، حيث ستنطلق سلسلة أخرى من العمل المسترسل، بدءا من تجفيف النبتة، مرورا بعملية “الدرس”، و”الغربلة”، قبل أن يتم شحنها في أكياس، لتوجه الأطنان منها إلى الأسواق المحلية، سيما أسواق البيضاء ومراكش، وأحيانا قد تتجاوز الحدود الوطنية وتصدر إلى الجزائر وليبيا أو بعض دول الخليج.

بمجرد أن تتجاوز عجلات السيارة دوار تيداس، ببضعة كيلومترات، وحتى قبل أول منعرجات الطريق الجبلية المؤدية إلى والماس، تفوح رائحة عطرة تسلب الألباب وتضفي جوا من السكينة وتمنح شعورا بالراحة ينسي المار بين حقول هذه الزهور بنفسجية اللون صخب المدينة. إنها حقول “نبتة الحب”، الاسم الذي كان يطلق قديما على الخزامى، تلك النبتة الساحرة بشكلها وعطرها وأزهارها الصغيرة ولونها الذي يضفي بهجة على الناظرين ويجذبهم إليها، في عز الصيف، حين تصير الأراضي جرداء، اللهم من حبات تبن متناثرة، بعد عملية الحصاد، فتجود حقول الخزامى، بزهورها، بدءا من يونيو، إيذانا بجاهزية المحصول، وتحافظ عليها إلى أواخر يوليوز، حين تنتهي عملية الحصاد.

عود على بدء

عديدون هم المغاربة الذين يجهلون أن نبتة الخزامى، تزرع هي الأخرى، وكثيرون منهم يجزمون أنها نبتة برية، تنمو قرب الوديان، أو في سفوح الجبال، غير أن الواقع عكس ذلك. حقيقة يروي تفاصيلها عبد الرحمان الخلفي، أحد كبار فلاحي الخزامى بالمغرب، الذي أكد أن والده كان أول من أدخل هذه الزراعة إلى المغرب، بداية ستينات القرن الماضي.
“كان الوالد، يملك قيد حياته محلا تجاريا في المدينة العتيقة بالرباط، وأصيب فجأة بمغص حاد، فأشاروا عليه بشرب مطبوخ الخزامى، التي كانت تستقدم آنذاك من فرنسا”، يحكي عبد الرحمان، مضيفا “هذه الواقعة تعود إلى 1962 بالضبط، بمجرد أن شرب والدي المحلول، أكد أن النبتة موجودة في تيداس”، كان يتذكر أن صديقه الفرنسي كان يقوم بزراعتها، وكانت منذ ذلك الحين تنقل إلى الخميسات، ويتم تقطيرها واستخلاص زيت الخزامى منها، ولأن ما كان يحصل عليه من صديقه، من النبتة لم يكن يكفيه، طلب منه تعليمه أسرار الزراعة، فكان له ما أراد نظرا لعلاقة الصداقة الوطيدة التي كانت تربط بينهما.
ما حصل أن صديقه قرر العودة إلى موطنه، فاستلم، والدي الأرض التي كان يكتريها الفرنسي، وواصل زراعة الخزامى بها، متبعا “تعاليم النصراني”، ومحافظا على سلسلة الإنتاج بدءا من الوقت الملائم للغرس وتقليب الأرض، والحصاد ومتى يجب تركها لتستريح، حتى أنه طور أساليب الإنتاج، حتى لا تبقى النبتة موجهة فقط إلى التقطير، نظرا لقلة المصانع المختصة، فكيف آلات الحصاد، لحصادها، ليواصل أبناؤه الثلاثة المسيرة بعده، مستقدمين الآليات من فرنسا، دون الاستفادة من الدعم الذي يوجه في الغالب للفلاحين.
متم 1979 وبداية 1980، وبسبب الإقبال على النبتة، وبطلب من فلاحي المنطقة، منح والدي بذور النبتة التي كان يزرعها للفلاحين المجاورين، فتوسعت حقول الخزامى التي امتدت لتشمل جزءا كبيرا من أراضي والماس.

دورة حياة

رغم توالي محاولات زراعة النبتة بعدد من الأقاليم المغربية، إلا أن منطقة والماس كانت الأنسب للزراعة، ومردوديتها كانت الأفضل، مقارنة ببعض المحاولات بآزرو. صحيح أن المشروع، في بداية الستينات، كان قيد التجريب فقط، إلا أن النتائج التي حققتها المساحة الأولى برهنت على نجاح هذه الزراعة ومنحت إمكانيات لتطويرها بفضل الظروف الطبيعية الملائمة، فجبال الأطلس، التي ساعدت في توفير برودة الطقس الملائمة والارتفاع المفروض توفره، انعكست على مردودة النبتة.
نبتة، يشرح عبد الرحمان أنها تحتاج إلى ارتفاع يصل إلى 1200 متر عن سطح البحر، وليس 600 متر، كما هو الحال بفرنسا، أحد مواطنها الأكثر شهرة، مبرزا “في الواقع كل نوع من الخزامى يحتاج علوا معينا، قد يصل في بعض الأحيان إلى ألفي متر، حتى يكون المحصول مناسبا”.
وفيما أبرز صاحب أكبر حقول الخزامى بالمنطقة، أنه في الغالب توجد أربعة أنواع منها في المغرب، إحداها هي “الخزامى البلدية” أي المحلية، فيما الثلاثة أنواع المتبقية، تم استقدامها من فرنسا، إلا أنه أكد أن مردودية الأنواع الأربعة تكاد تكون متشابهة، مستدركا “وحدها عملية التقطير واستخلاص زيت الخزامى هي التي يمكن أن تكون الفيصل وتحدد أي الأنواع أفضل، “الأمر الذي لا يتم للأسف في المغرب، إذ لا توجد صناعة تتمحور حول النبتة، رغم أهمية المحصول، وما يمكن أن يتم جنيه من صناعة تحويله إلى مواد مشتقة منه، تدخل في تركيب العطور، ومواد التجميل، وغيرها”.
بمجرد أن تنتهي عملية الغرس، تحتاج النبتة إلى تساقطات هامة، أو السقي المتواصل لمدة سنة، ليظهر المحصول الأول في السنة الثانية بعد الغرس. محصول يؤكد عبد الرحمان أنه لا يمثل في السنة الأولى من الإنتاج سوى 15 في المائة، نسبة تظل ترتفع سنة بعد أخرى، لتصل إلى أوجها بعد خمس سنوات، وتستمر على الحال ذاته، خمس أو ست سنوات أخرى، قبل أن يعاود المحصول إلى الانخفاض تدريجيا، إلى أن ينعدم بمجرد أن يصل عمر النبتة إلى 20 سنة، آنذاك، يشرح عبد الرحمان، يمكن “إعلان موت النبتة، وتجب حينها إزالتها من التربة، وتركها تستريح، قبل معاودة زرعها ببذور من فصيلة مغايرة لتلك التي كانت فيها من قبل حتى لا تفشل الزراعة”.

رغم أهمية الطلب على الخزامى في الأسواق المغربية، لاستعمالاتها المتعددة، إلا أن فلاحي هذا النوع من النبتة يواجهون مشاكل حقيقية تخص التسويق، “علما أنه لإنجاح هذه الزراعة، يتطلب الأمر، تمويلات ضخمة، بدءا من أجور الفلاحين، العاملين بالحقول الذين تقل أعدادهم يوما عن آخر، فضلا عن المبيدات والأسمدة التي تحضر فرنسا تصديرها بكميات وافرة، ويعد توفرها بالمغرب ضروريا لتحسين جودة الإنتاج، وأحيانا وقاية النبتة من بعض الطفيليات والأمراض، علاوة على المعدات المستعملة في عمليات الحرث والحصاد والدرس، الباهظة الكلفة، ولا يستفيد من يقتنيها من أي دعم”، يشرح عبد الرحمان، مضيفا أنه تحمل حتى مصاريف تقطير الخزامى، وتحويلها إلى زيوت، بعثها كنماذج لعدة جهات، دون أن يحصل على أي جواب، “نحن نعمل، ونجتهد حتى يستطيع المغرب منافسة حتى فرنسا في مجال هذه الزراعة لأننا قادرون على ذلك، لكن لا أحد يساعد، ومن البديهي أن يد واحدة ماكاتصفقش”.
أكثر ما يخيف مزارعي هذه النبتة، هو انخفاض أسعار بيعها، فقبل سنتين، كان الفلاحون حققوا أكبر نسبة من الأرباح، بعدما وصل الكيلوغرام الواحد من النبتة إلى 50 درهما، ما جعل جميع الفلاحين يتجهون إلى هذا الزراعة، التي غطت معظم الحقول بولماس والضواحي، ما جعل الثمن ينخفض هذه السنة إلى 30 درهما للكيلوغرام الواحد. منحنى الانخفاض هذا أكد كبير فلاحي الخزامى بالإقليم، إنه سيستمر، إذا استمرت مشاكل التسويق على حالها، وترك المجال لبعض الوسطاء والسماسرة، الذين يوجهون المنتوج إلى بعض الأسواق المحلية، في وقت بالإمكان تنظيم عملية تصديره وتطوير الصناعة المرتبطة بالخزامى.

المحيط الفلاحي: عن  الصباح

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.