مجلة المحيط الفلاحي

​ الحياة تحت الحصار …. مشوار العمر على “بسطة”

البراءة ليست حِكرًا على الصغار، فبعض الكبار لم تلوّثهم عتمة الحياة، ولا غبّرتهم أوساخُها، هناك على بسطةٍ لا تزيد على المترين في حي الشُّجاعية الراسخة، رسمت أم سامح أبو القمبز (57 عامًا) كثيرًا من الحبّ والنّقاء.

تربّع وعاء الزيتون الأسود المدقوق والمُملح مغموسًا بزيت الزيتون والفلفل الأحمر على تلك البسطة مداعبًا بلمعانِه عيون المارّة، صنعته أم سامح بيديها لتضمن نظافته وتميز طعمه، وبضع أكياس من الفلفل الأحمر المخروط صفَّتها لتستفزّ “بحرقتها” شهيّة “الغزّاوي” ولعاب الحوامل، أما أقراص “الكشك”، المكونة من اللبن الرائب مخلوطًا بالقمح المجروش ففي زاويةٍ بجوار عدد من الزجاجات التي حفظت فيها أوراق العنب الشهيّ، وزجاجاتٍ أخرى من زيت الزيتون السّريّ.

ثلاثون عامًا من عمرها أمضَتها، على تلك البسطة القصيرة، أرهقتها الجلسةُ الطويلة، وأزعجتها الفوضى العارِمة وأثقل عليها ضجيج الباعة، لكنها لم تتوقّف عن عملِها يومًا، تقول لفلسطين: “جمع المال والرزق الحلال لا يأتي وأنت جالسٌ في بيتِك، وتلك البسطة هي رزقي وحياتي وهي صاحبتي حتى آخر العمر”.

كانت في أواخر العشرين حين ضاقت الدنيا بعينيها، فاقترحت عليها جارتُها أن تصاحبها وتبيع كميةً من ثمار الباميا، تروي: “جلستُ على البسطة أحاول أن أخفي وجهي حرجًا، ولكن كيف أخفيه وأنا البائعة؟! تجرأتُ شيئًا فشيئًا حتى بعت الكمية كلها، كنت في قمة السعادة وقدّمت مربحي هديةً لحماتي، فهي طيبة القلب ودود”.

راق البيع لأم سامح بعد أن باعت كل الكمية، فطلبت من جارتِها ضعف الكمية في اليوم التالي، أما تلك الجارة العزيزة، فباتت مصدر الخير لها، تقول: “كلما أذكرها أدعو لها بالخير، فأنا ممنونة لها بقوة”.

استمرت حياة أم سامح على نفس النهج، تصاحبها “البسطةُ” طول يومِها، تستيقظ فجرًا ثم تنطلق لسوق “فراس” ولسانها لا يتوقف عن ترديد آيات الذكر والاستغفار، تشتري البضاعة ثم تفرشها على “البسطة” بتنظيم لتجذب الزبون.

وفي صخب السوق الذي لا ينتهي، لا يتردّد أقارب أم سامح من دعمِها والترفيه عنها ومساندتها في عملها، فابن عمّها يلاصقها بسطتَه وابن خالها يقابلها فيما أخوها في الجوار، جميعهم يقفون معها في شدّتها وفرحتِها، ليشكّلوا أروع بيئة عمل شعارها الأخوة والترابط، خاصة بعد وفاة زوجِها منذ سبع سنوات.

وتعدّ أم سامح السوق مدرسةً، تعلّمت منها العطاء والوفاء، وفن التّعامل مع الناس، ولطف الحديث وعون الضعيف، توضح: “لم أمنع محتاجًا من أن يأخذ من بضاعتي دينًا، فمن يقف مع المحتاج ييسر الله له أمرَه”.

تعود أم سامح لبيتِها محملةً بما يحتاج إليه أحفادُها وابناها العاطلان عن العمل من طعام وحاجيات ضرورية، يركض الصغار ليستقبلوها وقد اشترت لهم شيئًا من الحلوى اللذيذة، فيقبّلوها وقد لمعت عيونهم فرحًا وسعادة، تعلق: “ذلك المشهد يدفعني للاستمرار في عملي حتى وإن أنهكني التعب، فهم بأمس الحاجة لمن يصرف عليهم ويوفر لهم قوتَهم”.

أم سامح التي تعاني من آلام في الظهر والرجلين والأسنان التي ملّت من فكّها فراحت تسقط واحدًا تلو الآخر، لا تدري كيف مضى هذا العمر سريعًا، كمشوارٍ قصيرٍ، لقد هرب منها كحلم، وتاه في معمعة السوق والزّحام.

ودّعتها وزجاجة زيتٍ بنكهة الأرض الفلسطينية تتأرجح في يدي، وحفنة من الزيتون غرفتها لي أم سامح لتكون إفطاري الشهيّ صباح اليوم التالي مع قطعة جبنٍ وزيت وزعتر وكوبًا من الشاي اللذيذ.

  المحيط الفلاحي : غزة – حنان مطير

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.