موقع ووردبريس عربي آخر

النساء في بساتين بيت لاهيا.. كَدٌّ وتضحية وليالي سمر…

شمال قطاع غزّة، أنا اليوم في قمةِ سعادتي، أجلس في تلك الساحة الأرضية الواسعة أحتسي قهوة الصباح بنكهةٍ لهوانيّةٍ، ثمّ عصير الليمون الشهيّ بالنّعناع من ثمار الأرض، حيث بيت الحاجين الثمانينيين الفلاحة “أم زاهر طنطيش” وزوجها أستاذ اللغة العربية….

أسهم شمس العاشرة تتسلّل من الأعلى، عبر الفتحات الصغيرة الفاصلة بين جريد النخيل الجاف ووريقات شجرة العنب الطريّة المتسلّقة على السّقف، فترسم على الأرض وعلى أصابعي ودفتري أشكالاً وخطوطاً وظِلالًا، فيما تلمع في كوب الماء النقيّ فتزيده جمالًا.

انتظرنا الحفيدةَ أن تحضر لجدّتها “أم زاهر” غطاء رأسها الأبيض، ليتناسق مع ثوبها الفلاحيّ المُطرّز، ويكسوها بوقار الكبار وهيبتهم، ثم انطلقنا بالسيارة إلى الشمال من بيت لاهيا، فهي مُرشدتي إلى المزارِعة “أم يوسف غانم”، التي عملت سنين طويلة في أراضي عائلة “طنطيش” فكانت كابنتهم ولاقت منهم كل الحُبّ.

أم زاهر

مزارع الخير

في طريقِنا إلى تلك الأرض كانت زهور الحنّون تتأنّق وسط البساتين الخضراء، وتتمايل الطويلةُ منها كعروسٍ بفستانٍ أحمر، فيما رائحة الفل والياسمين تعبق في الأرجاء فتنثر في قلبي أملًا ومرحًا، حتى اتّجهت السيارة التي استقللناها إلى الغرب، وما تزال الأراضي الخضراء تحاصِرنا.

نزلنا بهدوء وأنا أراقب المكان الهادئ إلا من أصوات العصافير وسواقي الماء وصياح الدّيك، وكلماتِنا المتناثرة، فيا لعظمة الله تبرز في أبسط تفاصيلِ خلقِه التي اعتدنا على رؤياها وربما لم نلتفت إليها.

مساحات شاسعة مسيّجة بالأسلاك ومليئة بثمار الفراولة الأرضية المغطّاة بالنايلون، وبجوارها تعلو أوراق البصل الأخضر والباذنجان، فيما امرأةٌ ذات وجنتين حمراوين غامقتين، تنحني وتقلع بعض الحشائش المنتشرة حول الثمار.

للدخول لتلك الأرض المُسيّجة كان لابد من اجتياز بابٍ خشبيٍ يوصِلُ إلى غرفةٍ صغيرةٍ يساراً، وإلى الأرض الزراعية يميناً، وإلى الباب تستند امرأةٌ قد جلست تفصل أوراق البصل عن رأسِها وتضع كل نوعٍ في كومةٍ، عرفتُ فيما بعد أنها “أم رامي أبو ديّة” اللاجئة من قرية حمامة، جاءت من منطقة تلّ الزعتر إلى أرضِها المقاربة لتلك المزرعة التي التقيناها فيها، وتلك عادتُها اليوميّة كما تقول لـ”فلسطين”.

وتحكي: “آتي كلّ يومٍ بواسطة (التوكتوك) إلى أرضي هناك -تشير بيدها جهة الشرق- فروحي كلها معلّقة في الأرض الخضراء، لكنني هنا الآن أساعد جارتي في تجهيز أكوام البصل للبيع، الله يعينها على شغلها الصّعب”.

وبما أنها لاجئة سألتُها كيف وجدتِ “اللهاونة” يا أم رامي طالما أنكِ تتعاملين معهم وتأتين إليهم يوميًا؟ لم تُفكّر في إجابة منمّقة فكان ردّها السريع: “أحسن مِنّا والله”، فابتسمنا قبل أن تُكمِل: “إنهم طيبون زيادة، علاقاتهم يسيّرها الأخذ والعطاء، فتجد العلاقات في العائلة كلها قويّة، وكذلك تجد كلمة الكبير فيهم لها قيمتها، ولتلك الأسباب وأسباب أخرى كثيرة أسعد دومًا بمجاورتهم وصحبتهم”.

وبصمتٍ وهدوءٍ وابتسامةٍ رائقة تأتي إلينا ذاتُ الوجنتين الحمراوين تحمل طبقاً مليئاً بثمار الفراولة الحمراء، وتقدّمتها إلينا فكانت دافئة لكنها شهيّة للغاية، حيث قطفتها للتوّ وكنا حينها في عِزّ الظهر أواخر شهر مارس.. “تفضلوا.. قطف جديد”.

أم يوسف غانم تقدم الفراولة الطازجة

تأتي امرأةٌ وتطلّ من الباب، كانت تلف وجهها بغطاء رأسِها فلا يظهر منه غير عينيها وشيء من أنفِها، وتخبر أم رامي -التي ما تزال منهمكةً في أمر البصلِ- أن فرن الطين بات جاهزًا للخبز وأنها بانتظارِها، فخمّنْتُ أنها بدويّة وكان ظنّي في محلّه، فتلك عادة نسائهم إذ يلثمن وجوههنّ حين يخرجن من بيوتهنّ كما علمت بعد لقائي بالكثير منهنّ في بعض قصصي الصحفية.

حيّتنا بإشارةٍ عابرةٍ برأسِها ثم انطلقت مع أم رامي التي دعَتني لزيارتِها في أرضِها على بعُد بعض الأمتار من المزرعة التي أتواجد فيها الآن، فوعدتُها بذلك بعد الحديث مع المُزارِعةِ أم يوسف، وكلّي شوق.

نعمل لنعيش

أم يوسف وضعت يدَها على خاصرتها وانخفضت بهدوء وهي تكزّ على أسنانِها لتفترش الأرض الرملية، وتأخذ دور أم رامي، فكان طفلاها عبد الهادي (13 عامًا) وحسن (16 عامًا) اللذان تركا المدرسة لمساعدتها يقتلعان البصل ويحملانه على ظهريهما ويسيران من أقصى المزرعة لأولها ثم يكوّمانه أمام والدتهما.                                          الطفل عبد الهايد غانم.JPG

تحكي لـ”فلسطين”: “آلام الظهر لا تفارقني، فالعمل اليدوي من قطف وتعشيب وتوريق وتغطية وتكشيف، كلها أعمال مُرهقة ومتعبة للظهر والساقين، ناهيك عن العمل تحت أشعة الشمس الحارقة للوجه”.

تضع كفّها على وجنتِها وتخبرنا أن احمرار وجنتيها لتلك الدرجة كان نتيجة المكوث في الشمس الحارقة طويلًا، وتعلق: “لكن هذا مكتوب علينا، إنْ عمِلنا نأكل ونعيش، وإن لم نعمل لن نجد اللقمة، فالأرض حياتُنا”.

أليست الأرض ملكاً لكم؟، “لا بل نستأجرها منذ عشرة أعوام من صاحبها، ومساحتها ستة دونمات، مقابل مبلغ مادي ندفعه له كل عام”. توضح.

وتقول: “مذ كنت طفلةً في عمر السابعة وأنا أعمل في الزارعة وتحديداً التوت الأرضي (الفراولة)، حتى فهمت كل أصول زراعتها”.

وتضيف:” أكثر المواسم المتعبة في عملنا هو موسم الفراولة والذي يستمر من شهر سبتمبر حتى مايو من العام التالي، ثم يأتي موسم الباذنجان في الثلاثة أشهر التالية، وهكذا..”.

الفاطمتان الضحيّتان

وفي بعض الأشهر تحتاج الأرض لعمالٍ يصل عددهم لأربعة أو خمسة، يعملون يداً بيدٍ كأنهم إخوة، وفق وصف أم يوسف التي فقدت ابنتين لها دهساً وهي منهمكةٌ في عملِها في الأرض، كلتاهما كانتا في عمر العامين واسمهما “فاطمة”، لقد كانتا ضحيّة لعملِها وتوفير الرزق لأبنائها.

تروي مستذكرةً: “قبل ما يقارب 17 عامًا خرجت لأشتري مشروبًا غازيًا للعمّال الذين نستأجرهم لمشاركتنا العمل في الأرض، وكنت قد جهّزت اللحم المفروم وأرسلتُه لمحلّ الشوي، فكان الكباب جاهزًا والعمّال متلهّفون لتناول الغداء بعد يومٍ مرهق في العمل”.

فإطعام العامل عادة وخلق كان وما يزال قائمًا عندهم ولا يمكن تركه مهما كانت الظروف وفق قولِها، والتي أضافت: “تركت يدها للحظة قبل أن يدهسها باص (فلوكس) وتسقط ويدها الصغيرة ما تزال تقبض على كيس الحلوى”.

أما فاطمة الأخرى، فقد كانت برفقةِ أختيها الطفلتين نورا وختام، حيث طلبت منهما والدتهما أم يوسف أن يذهبنَ لبيت جدّهم لشدة ما كانت منشغلة في خلع ثمار اللفت كي تكسب الوقت ويذهب زوجها لبيعه في السّوق في وقتٍ مبكّر، لتتعرّض الأصغر بينهنّ للدّهس بواسطة شاحنة ماء، وتفقد العائلةُ طفلةً جديدة، وفق حديث أم يوسف التي تركت البصل من يديها لشدّة ما انغمست في الحديث عن ذكرى طفلتيها وأثَّر فيها.

وما تزال أم يوسف اليوم تحتفظ بملابس الفاطمتين الضّحيتين حتى اليوم، فتشمّهما كلّما اشتاقت لضحكتيهما وتتركهما بجوار وسادتِها حتى تغفو.

تحكي لـ”فلسطين” بأسف: “لقد كانا موقفين مؤلمين للغاية، لكن زوجي رفض دفنهما قبل إخراج السائق من السجن وإعلان الإعفاء عنه، معتبرًا أن ذلك قضاء وقدر من الله ولا ذنب فيه للسائق”.

تنفض أم يوسف الماضي بالعودة لابتسامتها الهادئة ولتقطيع البصل من جديد، وتحكي لي أنها تحلم بذلك اليوم الذي ترتاح فيه وتعيش سيدةً في مملكة بيتِها بعيداً عن الشمس الحامية والعمل الذي لا ينتهي، وأن يكون ذهابُها للأرض لاستنشاق الهواء العليل والتمتع باحتساء كوبٍ من الشاي بين الأراضي الخضراء، فالعمل من أجل توفير لقمة العيش مختلف كثيرًا عن العمل فيها لـ”تغيير الجوّ”، وفق حديثها.

IMG_0122.JPG

تمنيت لها ذلك وشكرتها مودّعةً، ثم سرت برفقة ماجدة (40 عامًا)، ابنة مرشدتي أم زاهر، شارعًا قصيرًا لنزور أرض أم رامي ورفيقتها ذات اللثام أم عطا السواركة البالغة 37 عاماً، لقد كانت رائحة الخبز الناضج على فرن الطين دليلاً للتعرف على أرضها الخضراء.

دخلنا باب المزرعة الصغيرة، فكانت شتلات النعناع والمريمية والريحان والزعتر على طول الطريق ممتدّة يميناً، وحَمائم من حولنا تطير بحريّة واطمئنان، وديكٌ أبيض بعينين حادتين يصيح عالياً، ودجاجاتٌ تنقنق تحت أشجار البرتقال والزيتون يساراً، فيما القطة ذات الشعر الأبيض الكثيف تقترب مستأنسةً بقدومِنا، ثم تحوم بالقرب من الطفلين عطا وصبحية السواركة وهما يغمسان خبز الطين الساخن بطبق زيت الزيتون بعد أن جاءا من بيتهما المجاور وجلسا على مقعدٍ خشبيٍ تحت شجرة الليمون.

“يا أهلاً وسهلاً..” رحبت بنا أم رامي صاحبة الأرض وهي تجلسُ بجوار الفرن المشتعل منشغلةً في إلقاء دوائر العجين المفرودة فيه فينتفخ على الفور، فيما أم عطا تدسّ أعواد الزيتون الناشفة فتُشعل نارَه زيادة.

أم رامي أبو دية 1.JPG

تُعرّفنا أم عطا بالمكان وتشير خلفاً إلى بيتِها، وتوضح: “لقد بناه لنا أحد ملاك الأرض هنا، أشفق على حالنا حين كنا نسكن في بيتٍ من (الزينكو) وتدلف علينا أمطار الشتاء من كل جهة”.

وتقول: “إنني ممنونةٌ له لآخر العمر، ومعروفه لا يمكن نسيانه أو تغافله، فما أصعب أن تكون في بيتٍ غير صالحٍ للحياة الآدمية، وأن يكون لك بيتٌ يعني أنك تعيش كريمًا عزيزًا وأنّ لك قيمةٌ كإنسان، وهذا من حقّ كل البشر”.

أم عطا السواركة

 

أما أم رامي فتأتي يومياً لهذا المكان، فهو حياتها وسر سعادتِها، تقول: “الحياة الحقيقية بين تلك الأشجار وفوق تلك الأرض، ويا ليتنا نعود لأراضينا في قرية حمامة فهذه الأرض لا تُذكَر أمام أراضي أجدادنا المسلوبة”.

وتضيف: “العيش في العمارات الصامتة الجامدة يقصّر العمر، ويُشعرك بالمرض، أما هنا فإنك تشعر بالحياة تدبّ في جسدك من جديد، لذلك فإنني أرى حياتي وراحتي النفسيّة في هذا المكان”.

تدسّ رغيفًا جديدًا في الفرن، وتمسك آخرًا ناضجًا للتوّ، وتلقيه بين يديّ لأتذوّق، فيلسع كفّي شيئًا خفيفًا، وما تزال عيناها معلّقتان بي في انتظارِ تعليقي.

أخبرتها أن “رائحته تسلب اللب فما البال بطعمِه، لا بد أنه شهيّ للغاية” فاطمأنّت وهي بالحقيقة ليست بحاجةٍ لمن يثبت لها روعة مذاقِه، ثم ابتسمَت وأكملت عملها.

أم رامي تقضي العديد من الليالي برفقة زوجها سائق التاكسي وأولادِها في تلك الأرض الخضراء، تغامزهم النجوم ويؤنسهم القمر، يسهرون ليلًا طويلًا بصحبة كؤوس الشاي والقهوة والضحكات المتناثرة، لا مجال هناك للكدر أو الهمّ، فالحياة أقصر من أن يضيعوها بالتكدير على أنفسهم. تعبّر: “الحياة تمرّ بحلوها ومرّها، ويا لحظّ من غنِم الحلو فيها وتجاهل المُر، ومن يتمنّى أن يعيش الحياة الحلوة عاشَها لأن السعادة قرار من داخل الإنسان ولا علاقة لها بالظروف لأن كل ظروفنا وأمورنا بيد الله تعالى”.

الأرض تعلّم الحب

لم أمكث كثيراً وإن كنت أتمنى ذلك، بين حلو الحديث والطبيعة، لكن العودة لصحيفتي “فلسطين” باتت ضرورية، استأذنتها في قطف شتلتين من النعناع لتكونا النكهة المميزة لكوب الشاي على مكتبي فغمرتني بلطفِها وبالكثير من الشتلات ذات الرائحة الفوّاحة.

ودعتهم والتقطت لهم الصّور الجميلة، وعدتُ أدراجي برفقة “ماجدة” التي لم تنفكّ من التأمل في الطبيعة السّاحرة، ومن أن تدلّني على مواطن الجمال هنا وهناك كونها من أهل بيت لاهيا، لأتقابل من جديد مع عائلتهم المتواضعة ذات الكلام الطيب والحديث المتأدّب، وأجد في انتظارِنا أخاها ليقلنا ووالدته أم زاهر بسيارتِه.

IMG_0286.JPG

استقلَلْنا السيّارة عودةً إلى الجهة الجنوبية من جديد، فتخبرني أم زاهر الجالسة في المقعد الأمامي مشيرة إلى الغرب بأن تلك المنطقة اسمها “الشّادوف” أو “الساقية” أما تلك فاسمها “البهرجان” وهذه “التين ونيس”.. فقلت لها حينها “إنكم أجمل وأروع ونيس قضيت معه يومين واحتسيت برفقتهم القهوة بطعم الحبّ.

 المحيط الفلاحي : بيت لاهيا – حنان مطير
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.